تخطَّ إلى المحتوى

٣-٤-التأمل في رموز زمانية

٣-٤-١-التأمل في رمزية عيد الفطر

التأمل في دلالة الاحتفال بعيد الفطر كما تلقيناه من سنة رسول الله بتوقيتها ودعائها أدى بنا إلى الربط بين الفرحة بالعيد وهذه المفاهيم التي يمكن التعبير عنها كما يلي: العيد هو يوم تجتمع القلوب علي ذكر الله، يعرف الإنسان طريق الحياة، يعود الإنسان الى مادي قيامه ليكسب من أرض ذاته بعد انطلاقه من تثاقله إليها، ينتصر الحق في الإنسان على ما فيه من باطل وينتصر الحق في بيئتنا على ما فيها من باطل، تقوم الصلة بين العبد وربه.

٣-٤-١-١-تجتمع القلوب على ذكر الله

هذا العيد ليس كمثله من الأعياد. فهذا العيد يمثل اجتماعنا وترابطنا. هذا العيد أول عيد بعد تحول أبي من الصورة الشبحية الى الصورة النورانية. فنرجو أن نكون في هذا العيد عند حسن ظنه بنا وأن نكون على ما أراد وعلى ما يريد. وأن نظل نراه دائما معنا لا ينقطع عنا أبدا نحس بنوره ساريا فينا وبيده تصرف أمورنا وبعقله يفكر معنا وبقلبه يذكر بيننا… (١٩٧٠/١١/٢٩)

عيدنا حقا يوم تجتمع قلوبنا على ذكر الله، وتتآلف قلوبنا في مقصود واحد، وفي طلب واحد، وفي اتجاه واحد، فنكون نواة خير وفلاح وصلاح وإصلاح. عيدنا حقا هو يوم تحيا قلوبنا بذكر الله، وتنير عقولنا بالتفكر في آيات الله وآلائه، وتتزكى نفوسنا فلا تأتي بفعل إلا في طريق الله… (١٩٩٠/٤/٢٦)

٣-٤-١-٢-يعرف الإنسان طريق الحياة

لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه. هذا ما نبدأ به يومنا بعيد الفطر في ظاهر أمرنا بقائمنا في هذا العالم في هذا الزمان وفي هذا المكان. نبدأ يومنا طالبين صلة بمن شعر حقا بهذه المعاني وقامها، وفي دوام هو يقومها، طالبين صلة بعبد الله حقا، بسر الله فعلا، بنور الله واقعا، برسول الله دائما. إن عيدنا هو يوم تقوم فينا هذه المعاني تتخلل قيامنا وتسري في ذواتنا فتسري منا مجرى الدم. نكون حقا قائمين عبادا نصرهم الله، نصرهم الله على أنفسهم، على ظلامهم، على أحزاب الشيطان فيهم. إن عيدنا بتوقيته الزمني يأتي بعد شهر مجاهدة الإنسان لظلامه فإن كان قد نصره الله فهذا عيده ولينصرن الله من ينصره… (١٩٧٦/٩/٢٤)

عيدنا حقا هو يوم نعرف الطريق، ونعرف المنهج الذي به نحول كل حياتنا وكل قيامنا وكل أفعالنا إلى حياة وإلى بقاء (ووجدوا ما عملوا حاضرا…1) … (١٩٩٠/٤/٢٦)

٣-٤-١-٣-يعود الإنسان الى مادي قيامه ليكسب من أرض ذاته بعد انطلاقه من تثاقله إليها

إنا ونحن نحتفل بعيد الفطر فإنا نرى أنه يرمز لكمال جهادنا، وإكبارنا لمعنوياتنا، ورجوع إلى مادي قيامنا وقد اكتمل لنا معنوي وجودنا، فعدنا لنكسب من أرض ذاتنا بعد أن كنا قد انطلقنا من تثاقلنا إليها… (١٩٧٨/٩/٣)

العيد صلة لمن حقق ذلك في مجاهدته لنفسه في شهر الجهاد (الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا…2). والعيد عودة الى سلوك طبيعي في الحياة بعد تخلي عن هذا السلوك في شهر الصيام. فالإنسان يعود الى ظاهر سلوكه مرة أخرى في دورات له على هذه الأرض تتلاحق دورة تلو دورة ليحقق ما فاته، وليستقيم فيما بقي له من وجود على هذه الأرض. والعيد نصر للحق في الإنسان على ما فيه من ظلام، وتحقيق معنى العبودية الخالصة لله… (١٩٧٩/٨/٢٣)

٣-٤-١-٤-ينتصر الحق في الإنسان على ما فيه من باطل وينتصر الحق في بيئتنا على ما فيها من باطل

فما هو العيد لنا؟ إنه يوم ينتصر الحق فينا على ظلام نفوسنا، ويوم ينتصر الحق في بيئتنا على ما فيها من باطل، ويوم نعرف وندرك أن الناموس هو الله، ويوم نعرف وندرك أن الله بالغ أمره (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده..3) … (١٩٧٩/٨/٢٣)

عيدنا حقا يوم نكون بقيامنا أداة خير وسلام ورحمة لأنفسنا ولمجتمعنا، فنكون نواة خير ومصدر حق (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا4)، ونكون مصدر نور (الذين آمنوا نخرجهم من الظلمات الى النور5)، ومصدر معرفة تنير للعقول طريقها، وتمهد للأفكار اتجاهها، تصوب المفاهيم وتضع أسسا صالحة لفهم مستقيم في دين الفطرة ودين الحياة. عيدنا حقا يوم يستيقظ الناس من غفلتهم ويفيقوا من كبوتهم، فيسألوا الله في أفعالهم وأعمالهم، ويتعاملوا مع الله في كل أحوالهم، نكون أمة وسطا تدعو للخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله… (١٩٩٠/٤/٢٦)

العيد (عيد الفطر) هو تعبير عن انتصار الإنسان في حياته الأرضية على ظلام جهله عن نفسه وعن العالم المحيط به وعن قدرته أن يوصل معرفته عن الحياة لمن حوله بالحكمة والموعظة الحسنة… .(١٩٩٣/٣/٢٤)

٣-٤-١-٥-تقوم الصلة بين العبد وربه

إن العيد هو معنى لقيام الصلة بين العبد وربه، صلة تقوم على فهم لمعنى الإنسان، ولمعنى العبودية لله، صلة تقوم على إكبار معنى الحق وتنزيهه عن أي صورة أو شكل، عن أي رسم أو تجسيد لمعنى مطلق الحياة… (١٩٩٠/٤/٢٦)

فالعيد هو تعبير عن معنى تحقيق الوصلة بالله التي نرغب جميعا أن نقوم فيها. فهذا اليوم يأتي بعد شهر الصوم، شهر الجهاد والمجاهدة، شهر الكسب في الله، شهر التعرض لنفحات الله، شهر التخلق بأخلاق الله، شهر إعداد الإنسان لنفسه ليكون أهلا لكلمات الله. يجيء بعد ذلك العيد معبرا عن فرحة الذين وصلوا واتصلوا، وحققوا لأنفسهم ما أرادوا بأن يكونوا عبادا لله، وبأن يكونوا أهلا لرحمة الله… (١٩٩٤/٣/١٧)

٣-٤-٢-التأمل في رمزية ليلة القدر

ليلة القدر في المفهوم الشائع هي ليلة من الليالي العشر الآواخر من شهر رمضان وهناك مجلدات تكتب فيما قيل فيها وعنها. نحن نتأمل هنا في رمزيتها ولا يعني ذلك أن ما نقوله هو الحق المطلق وإنما هو محاولة لأن نخرج من هذا التأمل بفهم أعمق عن صلة الغيب بنا. التأملات التالية امتدت على مدى أربعين عاما وتطورت كما هو واضح في الفقرات التالية، فليلة القدر هي: معنى الحق الذي يتنزل على الإنسان المتجه إلى الله، التعرض لنفحات الله، رمز لربط الإنسان بالغيب كما يعبر عنه بتنزل الملائكة والروح فيها، رمز لعطاء عظيم من الله يعبر عنه بأنها خير من ألف شهر.

٣-٤-٢-١-معنى الحق الذي يتنزل على الإنسان المتجه إلى الله

إن ليلة القدر هي الرسول بقائمه، الرسول بمعنى الحق القائم في الناس، فالليلة هي الجزء المظلم أي القيام الكثيف أي القيام الجسدي، فقائم الرسول لا ينقطع وبيننا لا يغيب ومعناه أنه ليلة القدر، أنه قائم أبدا، ومعناه أن تنزل الملائكة والروح فيه دائم لا ينقطع أبدا، ومعناه أنه سلام ورحمة وحب وطمأنينة دائمة حتى مطلع الفجر، دائم حتى يتحول بصورته الجسدية الى الصورة النورانية، ويتجدد مرة أخرى في صورة جسدية ليلية فتكون أنت ليلة القدر، أما هو فيكون مطلع الفجر والنور المضيء الهادي الذي يرشدنا ويلهمنا ويحركنا… (١٩٧٠/١١/٢٧)

٣-٤-٢-٢-التعرض لنفحات الله

ليلة القدر هي تعبير حقي عن تعرض الإنسان لنفحات الله. إنها اللحظة التي تصبح فيها بوجودك أرضا صالحة، وقياما صالحا، تكون أهلا لأن تشعر بفيوضات الله، وبعطاء الله، وبرسل الله وملائكة الله… .(١٩٩٢/٣/٢٧)

.. إن معنى ليلة القدر هو مفهوم قبل أن تكون ليلة بذاتها، إنه مفهوم كيف يكون الإنسان أهلا لرحمات السماء، وأهلا لمغفرة الله له ….. هكذا يكون الثلث الأخير من شهر رمضان هو تتويج ومحصلة لما هيئ الإنسان نفسه له، فينتظر فى هذه الأيام الأخيرة أن يوصل وصلة حقية، وأن يكون أهلا لليلة القدر… (١٩٩٧/١/٣١)

إن الإنسان فى حاجة دائمة إلى مدد روحي، وإلى مدد إلهي، وإلى مدد نوراني… إن تلقى آدم لكلمات الله هو فى واقع الأمر يحمل نفس معنى ليلة القدر، فليلة القدر إذن ليست مجرد ليلة، إنما هي معنى قبل أن تكون ليلة، هى مفهوم قبل أن تكون زمنا محدودا، هي أمل للإنسان أن يقوم فيه، وأن يشهده، وأن يكون أهلا له يوم يواظب على أن تكون له صلة بالله، وأن يكون له اتصال دائم بنور الله، فيهيئ داخليا لتلقى نفحات الله ويكون فى ليلة قدر، ويشهد ليلة قدر، تغير ما بقى فيه من ظلام وتجعله نورا على نور… (١٩٩٧/١/٣١)

إن ليلة القدر رمز دائم لمن يتعرض لنفحات الله، لمن يجاهد نفسه حتى يكون أهلا لفيوضات الله…فوصفها بأنها خير من ألف شهر، يعلمنا أن القضية هي بالكيف، وليس بالكم. لأن الإنسان الذي يقوم ليلة القدر، هو الإنسان الذي عرف معنى العبودية لله، وهو قائم على هذه الأرض، في هذا الجلباب البشري، وفي هذا الوجود المادي، وفي هذا القيام الإنساني. ومن هنا ندرك أن الإنسان عليه أن يتقن ما يقوم فيه، وأن يفهم قبل كل شيء ما يقوم فيه… (١٩٩٩/١٢/٣١)

٣-٤-٢-٣-رمز لربط الإنسان بالغيب كما يعبر عنه بتنزل الملائكة والروح فيها

… تنزل الملائكة في ليلة القدر يرمز الى ربط الإنسان بالغيب وتهيئته لتلقي مددا روحيا من الله. والروح في الآية هي رمز لهذا المدد الروحي، هي رمز للاستمرارية، رمز لأن يتعرض لنفخة من الله (فنفخنا فيه من روحنا…6) تغيره ليصبح خلقا آخر، آداما آخر، كلمة لله وروحا منه. إنه بذلك يعد إعدادا عظيما لا يستطيع أن يناله بعمله. هذا المقام الأعلى لا يناله إلا بإذن الله، وبأمر الله، وبملائكة الله، وروح الله وهذا هو قانون الله في خلقه كما نتأمله في هذه الآيات… (١٩٩٩/١٢/٣١)

٣-٤-٢-٤-رمز لعطاء عظيم من الله يعبر عنه بأنها خير من ألف شهر

إن الإنسان إذا استطاع أن يحافظ على ما كسبه في هذا الشهر، يكون بذلك قد قام في ليلة القدر، فليلة القدر وهي خير من ألف شهر، إنما تعبر عن قيام الإنسان في كيان متعرض لنفحات الله، غير ما فيه من ظلمات، واستبدلها بنور الحق ونور الحياة. إنا حين نقول إن ليلة القدر أنزل فيها القرآن، فإنما هي بذلك تعبر عن هذا المعنى الذي نتحدث فيه. فرسول الله كان مجاهدا متعبدا متعرضا لرحمات الله ونفحاته قبل البعثة، فهو قد اتجه إلى ربه سائلا طالبا، أن يهديه سواء السبيل. فكانت ليلة القدر هي تعبير عن استجابة الحق لهذا العبد الذي سأل، والذي طلب، والذي جاهد واجتهد، ليكون أهلا لنفحات الله، ولكلمات الله، ولأنوار الله، بنزول القرآن إليه. فكان الإنسان بتعرضه لكرم الله وجوده، أهلا لأن يعلمه الله…… (٢٠٠٩/٩/١٨)

)إذا كنا نرمز للهاء في الآية (إنا أنزلناه في ليلة القدر7) بمعنى القرآن، أو بمعنى التنزيل من الأعلى إلى الأدنى، أو كل ما هو خير للإنسان يتلقاه من الغيب إلى الشهادة، فكل هذا يعني أن الإنسان يوم يشهد هذه الليلة يهيئ نفسه لنفحات الله ورحماته، وبذلك تكون خير من ألف شهر، خير من كل حياة الإنسان. في هذه اللحظة يتغيرالإنسان تغييرا كليا. إن كل عمل الإنسان ومجاهدة الإنسان أن يكون أهلا لهذه اللحظة. وهذا أيضا نفهمه في حديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، حتى أنت يا رسول الله، حتى أنا ما لم يتغمدني الله برحمته8). فليلة القدر هي رحمة الله يوم تتغمد الإنسان وتغمر الإنسان. تنزل الملائكة نجده في الآية: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر9)، كما نجده أيضا في الآية: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون10). إن الملائكة تتنزل كل ليلة ولكن هل الإنسان أهل لأن يكون متلقيا لها. إن ليلة التلقي مرتبطة بالإنسان. فالله وملائكته أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ومعه أينما كان، ولكن هل الإنسان مع الله، أم أنه بعيد عنه بغفلته وبانشغاله بذاته وبوجوده وبمحيطه وبحياته الأرضية… (٢٠١٦/٧/١)

٣-٤-٢-٥-إتجاه الإنسان إلى داخله طالبا الهداية إلى مطلع النور

إن الإنسان مخبر بأن يكون مهيئا وجوده لصلة بربه في كل العبادات. فكل العبادات أساسها أن يعطي الإنسان فرصة لتلقي نفحات الله وليكون محاولا أن يعد نفسه لهذه الصلة، وهذه الصلة أساسها إيمان الإنسان وهو في حجاب من ظلام حتى يستطيع أن يكسب الحياة الأبدية. مطلوب وأنت تعيش في هذا الحجاب أن ترجع إلى داخلك وأن تسأل نفسك، هل أنت مخلوق بلا هدف؟ هل أنت لست في حاجة إلى رب تتجه إليه؟ أم أنك في حاجة لأن تطلب صلة بربك؟ ولأن تقوم فيما تجيب به عليك نفسك وقلبك، لن يجيبك أحد، ولن يهديك أحد (إنك لا تهدي من أحببت ولٰكن الله يهدي من يشاء11) (… من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا12). كيف يهدي الله الإنسان؟ إنه يهديه من داخله، فإذا نظرنا إلى واقعنا، هل الإنسان يضل من خارجه؟ هل يؤخذ إلى الضلال من خارجه؟ أم أن داخله هو الذي يدفعه دفعا إلى ذلك؟ وكذلك الهداية، هل يستطيع إنسان أن يدفع إنسانا إلى الهداية بقوته، بدفعه دفعا إلى أن يهتدي؟ أم أن الهداية تجيئ من داخل الإنسان؟ إننا نخبر بهذه الحقائق في آيات الله، حتى تلفت نظرنا وتوجهنا أن نتجه إلى داخلنا، وهذا مطلوب أن يحدث ونحن على هذه الأرض وفي هذا الحجاب. وقد تكون الآية “سلام هي حتى مطلع الفجر تعني أنك عندك فرصة لتهيئة نفسك حتى تخرج من هذا الحجاب. فإذا خرجت من هذا الحجاب ولم تصل إلى أن تعد نفسك لتلقي نفحات الله، فقد خسرت هذه الكرة، وهذه قيمة هذه الحياة. … (٢٠١٦/٧/١)

٣-٤-٣-التذكر في رمزية مولد سيدنا محمد(صلعم)

فالحياة السارية في كل وجود هي مولد لرسول الله في هذا الوجود. فهل تعارف الناس على معنى الحياة فيهم؟ هل عرفوه قائما لا يغيب؟ مولود في كل وليد بما فيه من سر الحياة، وبما فيه من اسم الله، وبما فيه من روح الله. عرفوا أن احتفالهم بمولد الحياة فيهم هو يوم يشعرون بالحق ساريا في وجدانهم، زاهقا الباطل فيهم، مقيما إنسان الحق العارف لمعاني الحياة، السالك في طريق الله، المتخلق بأخلاق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، خليفة الله في الأرض، بيت الله المقصود، نور الله الساري في كل موجود، من تقبل فيضه أفاض عليه بالحياة ممتدة لا تنتهي، وأفاض عليه بالرحمة واسعة لا تحد، وأفاض عليه بالحكمة تزداد فيه ولا تنقص، جعل له نورا يسري به في الناس فجعلهم من الذين نورهم يسعى بين أيديهم، جعله رجلا في الله (إن لله كنوز مفاتيحها الرجال)، جعله هاديا بإذنه وسراجا منيرا. فهل تقبلنا فيضه وأعددنا وجودنا له… (١٩٧٦/٣/١٢)

٣-٤-٤-التذكر في رمزية هجرة سيدنا محمد(صلعم)

التذكر في الرموز المصاحبة لهجرة سيدنا محمد من مكة إلى المدينة أدى بنا إلى التعرف على بعض المفاهيم. الفقرات التالية تقدم هذه المفاهيم: الهجرة من الظلام إلى النور، بناء أمة تنظم أحوالها طبقا لمعان سامية، أن تكون هجرتنا إلى الله ورسوله طلبا للقوة، وطلبا للتوفيق، مساندة الغيب في الهجرة هو تعبير عن مساندة قانون الحياة لكل حي يريد أن يخرج من وسطه الميت.

٣-٤-٤-١-الهجرة من الظلام إلى النور

إن الرجاء والأمل في الله كبير، فاهجروا ما فيكم من ظلام وهاجروا إلى رسول الله مستغفرين مقبلين بين يديه مسلمين، مسلمين لواقع الحياة، سائلين أن تكونوا قابلين أن الدين لواقع، وأن الحق هو الواقع، وأن رسول الحق هو الواقع. اطلبوا الله واقعا، واحمدوه واقعا، واذكروا اسمه كثيرا واقعا، لا خيالا ولا رسما. لا تعبدوا صنما تصنعوه بأفكاركم بظن وتخمين بلا واقع ولا يقين… (١٩٧٦/١/٢)

إنا في حاجة اليوم أن نبدأ بدءا جديدا، إنا في حاجة كل يوم أن نبدأ بدءا جديدا، إنا في حاجة كل يوم أن نهاجر من الظلام الى النور، ومن الجهل الى المعرفة، ومن الباطل الى الحق، ومن البيئة الطالحة الى البيئة الصالحة، كأفراد وكمجتمع. إن ما صلحت به هذه الأمة سوف تصلح به اليوم إن اتبعت المنهج الذي أصلحها. والمنهج ليس صورة وإنما هو أسلوب حياة… (٢٠٠٥/٢/١٨)

فالهجرة هي بدء جديد، واحتفالنا بالهجرة هو احتفال ببدء جديد، فقد كانت هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، هي بداية جديدة لمجتمع أفضل، ولفهم في الحياة أقوم، ولنظام حياة أحسن، هي رمز للخروج من مجتمع مظلم، إلى مجتمع وليد، يمكن أن ينمو ويصبح مجتمعا حيا. والإنسان فيه بذرة الحياة، فيه فطرة الحياة، فيه مضغة الحياة، ، والجسد وشهواته ورغباته وتثاقله إلى الأرض هو مجتمع مظلم. على الإنسان أن يبدأ هجرته، فيخرج بقلبه من هذا المجتمع المظلم، ولا يكون هذا الخروج إلا بالدعاء، وإلا بالاستغفار الدائم، وإلا بالصلاة والسلام على رسول الله، وإلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وإلا بإدراك ألا حول ولا قوة إلا بالله، وإلا بالإحساس بتفويض الإنسان أمره لله، وهذه هي العبادة. لا تتعجل، ولا تتصور صورة تريد أن تكون فيها لتشعر بأنك خرجت من عالمك المظلم، فسيظل عالمك المظلم معك دائما، ولكن عليك أن تذكر نفسك دائما بمعنى الحياة. فحتى حين هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، لم يتركه عالم الظلام، إنما ظل يحاول أن يقضي على هذه النقطة المضيئة، ولم يستسلم هذا العالم المظلم حتى بعد أن تم الفتح وانتشرت دعوة الإسلام، ظل هذا الظلام يلاحقها إلى يومنا هذا. وأورثنا هذا الظلام شكل دين فقد سماته الأساسية والحقية، واحتفظ بصورته الشكلية، واختفت منه كل المعاني الحقية التي ظلت باقية في قلوب العارفين الصادقين الداعين، الذين إلى قلوبهم يتجهون، ولعقولهم يعملون، والله يدعون، وعليه يتوكلون، وبرسوله يتصلون ويوصلون. وكما لم يفقد الظلام أمله في أن يقضي على نقطة النور، لم يفقد أهل النور أملهم في أن يضيئوها، وأن يشعلوها، وأن يكبروها، وأن يقولوها، وأن يدعوا بها، وأن يسمعوها للعالم أجمع، لا زالوا يفعلون ويعملون، والله يسألون، وعليه يتوكلون، وحول ذكره يجتمعون، فهذه قضيتهم، ستظل دائما هي قضيتهم. (٢٠١٩/٩/٦)

٣-٤-٤-٢-بناء أمة تنظم أحوالها طبقا لمعان سامية

كانت الهجرة إلى المدينة، ليكون أهل المدينة والمهاجرون مع رسول الله إلى المدينة بداية جديدة، من خلال دولة، من خلال أمة، من خلال جمع تنتظم أحواله طبقا لمعان سامية، وتكون أهدافه هي خطاب للآخرين عن المعاني الحقية، التي حملتها كل الرسالات السماوية، والتي جاءت بها الرسالة المحمدية. ومن هنا كانت هذه بداية جديدة في نشر الدعوة الإسلامية. رسالة الهجرة هي رسالة لكل إنسان في حاجة أن يؤسس دولته في وجوده، ودولة الإنسان أن ينظم حياته، وأن تتوافق أجزاؤه وأبعاضه لتحقيق هدف، هو نشر رسالته على هذه الأرض. كل إنسان له رسالة يؤديها، رسالة كل إنسان أن يكون مثلا صالحا لما يجب أن يكون عليه الإنسان. إن الإنسان في مرحلة ما يدعو أبعاضه لتتوافق مع ما فيه من حق، ولترجع إلى معنى الحق فيه، قد تتبعه نفسه، فتتغير من معناها الأمارة بالسوء، إلى معنى أفضل يجاهد معه ويساعده، وقد تظل نفسه بعيدة عن دعوته، فلا تستمع لهذه الدعوة، إنما تسير في طريقها، غير ملتفته إلى هذه الرسالة السامية. عليه أن يتجه إلى من يساعده، وأن يقوم معه في جمع، يلجأ إلى جماعة، يلجأ إلى إخوان له في الله، يجتمعون على ذكر الله، فيكونوا بذلك دولة، أمة، جماعة، يساعد بعضهم بعضا، بالمدد الروحي، وبالمدد القلبي، بالتواصي بالحق وبالتواصي بالصبر. إن ذلك سوف يساعد الإنسان على أن يكون أكثر فاعلية، في دعوته لأبعاضه، لتتابعه في طريق الحق … (٢٠٠٩/١٢/١٨)

المجتمع قبل الهجرة، كان لا يقبل أن يكون هناك حوار بين أفراده وجماعاته ليصلوا إلى كلمة سواء بمعاييرهم وبتقديرهم، وإذا لم يصلوا، يحترمون بعضهم بعضا، ويضعون من المعايير ومن الآليات التي تمكنهم من أن يرجحوا رأيا. دعوة رسول الله أرادت أن تحررهم من أن يكونوا عبادا لفكر قديم، ولعادات بالية لا يقبلها عقل، ولا يقبلها إنسان يفكر ويتدبر. كانت دعوة شهادة أن لا إله إلا الله، تحمل هذا المعنى، فهي تحررهم من أن يكونوا عبادا لقديم اعتقدوه، وإذا فكروا قليلا، لوجدوا أنه ليس الأفضل وليس الأحسن. ولكن المجتمع المكي لم يقبل التغيير، لم يقبل الدعوة، ولم يكتف بذلك، بل أراد أن يجهض هذه الدعوة في مهدها. ومع إيماننا بالتأييد الرباني لدعوة رسول الله، فهذا لم يمنع أن تكون هناك معارضة، وأن يحاول المعارضون أن ينهوا هذا الأمر. وهنا ننظر إلى القانون الإلهي، وهو أن نعمل قوانين هذه الأرض، فكانت الهجرة، هي تعبير عن إعمال هذا القانون، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا قلة، ولا يستطيعون أن يواجهوا الكثرة، فلم يكن هناك طريق إلا أن يهاجروا إلى مكان آخر يستقبلهم. والهجرة ـ كما هي في التاريخ ـ كانت انتقالا من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، فلو نظرالإنسان إلى وجوده على أنه يمثل ويعبرعما يحدث على هذه الأرض، فسوف يجد نفسه الأمارة بالسوء تعبر عن الوسط الذي يرفض دعوة الحق، فنفسه تشده إلى أسفل، وداخله يعبر عن داعي الحق، فهو في أعماقه ليس راضيا عن هذا الحال، ويرى في حال آخر، أنه الحال الذي يريد أن يهاجر إليه، يريد أن يكون غير متثاقل، يريد أن يكون مفكرا في آيات الله، ذاكرا بقلبه، فلا يكون أمامه إلا أن يهاجر إلى هذا الحال، لا ينظر إلى نفسه المظلمة، وإنما يحاول أن يهاجر منها وأن يتركها، وألا ينتظر حتى يصلحها، فهي لن تصلح في الحال التي هي قائمة عليه. ومعنى الهجرة هنا، هو أن يكثر من القيام في ذكر لله، وفي طلب لله، وفي تفكرآيات الله، وفي الاستعانة بالله، وفي استغفار الله، وفي طلب عون من الله. (٢٠١٨/٩/٧)

٣-٤-٤-٣-أن تكون هجرتنا إلى الله ورسوله طلبا للقوة، وطلبا للتوفيق

إننا حين ننظر إلى كل حدث في تاريخنا، نجد فيه رسالة من الله لنا، علينا أن نتذكرها وأن نتأملها وأن نتدبرها (وذكر فإن الذكرىٰ تنفع المؤمنين13)، وترديد المعاني يرسخها، وهذا هو الذكر. الذكر هو ترديد لحال ولمعنى، يريد الإنسان أن يقوم فيه، فإذا رددنا معنى الهجرة، وأننا نريد أن تكون هجرتنا إلى الله ورسوله، طلبا للعون، وطلبا للقوة، وطلبا للتوفيق، وطلبا للهداية، فهجرتنا إلى الله ورسوله. لا نريد أن نظل في ظلام نفوسنا، وفي غفلة قلوبنا، وفي ضلال عقولنا، نريد الهداية لعقولنا، ونريد الهداية لقلوبنا، ونريد الهداية لنفوسنا، فلنهاجر إلى الله ورسوله، بالدعاء والرجاء، بالتوسل بجاه رسول الله وبشفاعته وبرحمته، فهو الرحمة المهداة والنعمة المجزاه، إنه نور الحياة… (٢٠٠٩/١٢/١٨)

٣-٤-٤-٤-مساندة الغيب في الهجرة هو تعبير عن مساندة قانون الحياة لكل حي يريد أن يخرج من وسطه الميت

كل رسالة سماوية، وكل رسول جاء بدعوة حقية، جاء في وسط إنساني فيه كل المتناقضات من خير وشر، ومن نور وظلام. وحين يدعو داعي الحق دعوته فأهل الباطل والظلام يرفضون هذه الدعوة، ويكونون وسطا مظلما يحيط بالداعي ومن تابعه من أهل الحق، فإذا كان المجتمع أغلبه ظلام، فإنه يصبح قوة ضاغطة على داعي الحق ومن اتبعه، ويصبح أهل الحق هم معنى الحي، ويصبح أهل الظلام هم معنى الميت. هذا الحي يريد أن ينتشر، ويريد أن يبقى، ولا مجال له إلا أن يخرج من هذا الميت، فهنا يكون معنى (…يخرج الحي من الميت…14)، وتكون الهجرة هي تعبير عن خروج الحي من الميت، ويصبح هذا هو القانون الطبيعي لاستمرار الحياة، والذي تسانده قوى الغيب في حركته، فكانت هجرة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تعبيرا عن هذا الحال، وكانت مساندة الغيب في هذه الهجرة هو تعبير عن مساندة قانون الحياة لكل حي يريد أن يخرج من وسطه الميت، سواء كان ذلك على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع. فعلى مستوى الفرد، فإن قلب الإنسان بما فيه من حياة هو معنى الحي في الإنسان. وجسد الإنسان الذي يحيط بهذه البذرة هو الوسط الميت في الإنسان. لذلك كان اللجوء إلى الله، ودعاء الله، هو هجرة للمعنى الحي في الإنسان إلى الله، وإلى من يعينه على ظلام نفسه. فكل دعاء هو هجرة لقلب الإنسان من وسطه المظلم إلى الحي القيوم الذي يحييه ليرجعه مرة أخرى إلى هذا الوسط، فيحيا هذا الوسط به. وهذا ما يمثله رجوع رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من المدينة إلى مكة فاتحا. هذا بعد نتدبره ونتأمله من الهجرة. (٢٠١٧/٩/٢٢)

٣-٤-٥-التذكر في رمزية الإسراء والمعراج

فإذا نظرنا إلى واقعة الإسراء والمعراج في هذا الإطار، فإن الإسراء والمعراج كانا في إطار معنى: “تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا”، وأما ما نفهمه من نتيجة هذه الواقعة، أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم تزده هذه الآية من ربه، إلا افتقارا إلى الله (أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه15). والإسراء ـ كما نتأمل دائما ـ هو تعبير عن حال الإنسان الذي قال ربنا الله ثم استقام، وهو في لباسه البشري (سبحان الذي أسرىٰ بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى16..)، وإذا كان الليل هو تعبير عن وقت، فهو تعبير عن حجاب، هو تعبير عن وجود بشري في قيام محدود. وما المسجد الحرام، إلا تعبير عن قيام الإنسان في وجود حقي، نتيجة لشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بقوله ربنا الله واستقامته، (…استقم كما أمرت …)، فيكون بذلك أهلا لأن تتنزل عليه الملائكة، ولأن يسرى به من هذا الحال إلى حال أعلى وأكبر وأقصى، وأن يريه الله من آياته الكبرى (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). فهل ينتهي الأمر عند ذلك؟ أم أن القيام على هذه الأرض مستمر، وتصبح العلاقة قوية بين الأرض والسماء (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة …)، تعبير عن حال الإنسان الذي يظل متمسكا بقول ربنا الله وبالاستقامة، مفتقرا غير مستغن، متواضعا غير متكبر، يكون بذلك أهلا لرحمة الله ولرعاية الله، وأن يكون وليه الله في الدنيا وفي الآخرة، وهذا من فضل الله، ومن مغفرة الله، ومن رحمة الله، (نزلا من غفور رحيم). وهذا التعبير (نزلا من غفور رحيم)، له دلالة قوية في هذا الإطار. الدلالة الأولى، هي استمرار الاستغفار، واستمرار قبول الاستغفار ـ بمعنى الغفور. فالإنسان الذي قال بحق ربنا الله، والذي استقام بحق كما أمر، فإنه سيكون في استغفار دائم. إستغفار حقي لا يتوقف، وإدراك حقي، (… وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين 17) وهنا يجئ معنى الرحيم، فكل إستغفار يصاحبه رحمة ومن يرحم في دوام هو الرحيم… (٢٠١٨/٤/١٣)

ظاهرة الإسراء والمعراج تحمل بعض الرسائل للإنسان. نحن لا نتحدث هنا عن ما قيل عنها وهل هي بالروح أو الجسد وماذا حدث خلالها، إنما نتذاكر بعض المعاني التي تحملها. الفقرات التالية تعبر عن هذه المعاني: قيام الإنسان في حال يكون فيه أهلا لفيوضات الله فيسري به الله إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه، المعراج هو تعبير عن رحلة الإنسان الأبدية.

٣-٤-٥-١-قيام الإنسان في حال يكون فيه أهلا لفيوضات الله فيسري به الله إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه

ما كان الإسراء إلا معنى في الإنسان. فما كان المسجد الحرام في مدلوله الإشاري إلا حال يقوم فيه الإنسان ويكون بذلك أهلا لفيوضات الله ورحماته، لأنه طهر بيته للطائفين والراكعين والعاكفين، وما كل هؤلاء إلا الإنسان في تجلياته، فيسري به الله فقد أعد وجوده كله لهذا الحدث الجلل، ليأخذه من قيامه الى قيام أكبر، الى المسجد الأقصى ليصل الى أقصى ما يمكن أن يصل إليه في قيامه على الأرض. ويتجه في صلاته وفي دعائه الى بيت لله أكبر. فهو وإن كان قام في معنى المسجد الحرام إلا أن ذلك لا يعني أن هذا كل شيء، وإنما حين ينظر الى ما وصل إليه سوف يجد أن أمامه ما يجب أن يصل إليه أكبر. لذلك كان الإسراء الى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى، لأنك لتعرج في السماوات، عليك أن تكسب قيامك على هذه الأرض… (١٩٩٣/١/٢٢)

قضية الإسراء ليست مجرد حادثة في القديم، وإنما هي حادثة لها أثرها ولها دلالتها. إنها رسالة للإنسان اليوم وكل يوم. إنك يوم تكون عبدا لله، يفعل الله بك الكثير. إنك يوم تكون عبدا لله يأخذ الله بيدك. إنك يوم تكون عبدا لله يسري الله بك. ليس بالضرورة أن يكون ذلك كما حدث في قديم. فهذا أمر جليل له دلالته الباقية، وإنما لنأخذ منه دلالته المعنوية، ودلالته الروحية. التواجد في المسجد الحرام يشير إلى مرحلة التكوين، مرحلة إعداد النفس وإصلاحها بارتباطها بالقبلة، الالتصاق بمصدر الحق يعطيك قوة، ويعطيك طاقة، حتى تكون أهلا للحق، فتكون في معنى العبودية لله. إن المسجد الحرام وقيامك فيه، هو قيام مجاهد، يريد أن يكون عبدا لله. إنه مرحلة جهاد ومجاهدة، إنه مرحلة سعي وكد ومحاربة للنفس. فإن حقق الإنسان ما أراد الله به من قيامه فيه، أصبح أهلا لأن يسري به الى المسجد الأقصى. ليصل الى معنى هو أقصى ما يصل إليه عبد الله على الأرض، وستظل مع ذلك متجها الى القبلة، الى بيت الله الموضوع على الأرض، الى المسجد الحرام. إن ذلك لا يكون إلا بعطاء الله، وإلا بإرادة الله، وإلا بتوفيق الله، وإلا بعون الله، وإلا باصطفاء الله. إنه ليس عملا إراديا، وإنما هو عمل فيه رحمة الله، وفيه توفيق الله. إن على الإنسان أن يعد نفسه ليأخذ الله بيده ويجعله في أقصى وجود له على الأرض… (١٩٩٥/١٢/١٥)

.. فالإسراء هو تعبير عن رحلة الإنسان على هذه الأرض، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى نقطتان مضيئتان، تمثلان رحلة الإنسان، بقيامه وحياته في هذا الكون. فالمسجد الحرام يرمز إلى إدراك الإنسان لقانون الوجود، ولعلاقته بالكائنات الأخرى. فمن دخل المسجد الحرام فهو آمن، يدرك أن كل شيء في هذا الكون، له رسالة معه، فلا يؤذي كائنا أيا كان، يتجرد عن ذاته، ويتجرد عن كل ما يربط قلبه بهذه الأرض، فهو موجود عليها بذاته، ولكنه منطلق عنها بروحه. رسالته أن يتعامل بأمن وأمان، مع كل الكائنات. المسجد الحرام يعبر عن لحظة الإدراك، اللحظة التي يعرف فيها طريقه، ماذا يجب أن يفعل؟ إنه لو قام في هذا الحال، لأصبح أهلا لرحمة الله، ولفضل الله، أصبح في معنى العبودية لله، يكون أهلا لأن يسري الله به، يأخذ بيده، ينقله من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مقام إلى مقام، يسري به إلى المسجد الأقصى. والمسجد الأقصى رمز لأقصى ما يمكن أن يصل الإنسان إليه.. (٢٠٠٩/٧/٣)

وما كانت صلاة رسول الله في هذا المكان إلا تعبيرا عن معنى الإنسان الذي وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان على هذه الأرض، من فهم عميق لمعنى وجوده، ومن إحساس مرهف لعلاقته بكل شيء، ومن قدرة على التجرد والذكر لله وبالله. فكانت إمامته للأنبياء والرسل من قبله، هي جماعهم، هي كمالهم، فكل الرسل هم قيام واحد، وهم معنى واحد، هم مجالات في معنى الرسول، وفي معنى الرسالة، وفي معنى الإنسان في كماله، في صفائه، في نقائه، في علوه، في رقيه. كان الإسراء تعبيرا عن حياة الإنسان، وما يبغي أن يكون عليه. فإذا وصل الإنسان إلى ذلك فهل يستطيع أن يعرج إلى السماء، من سماء إلى سماء، إلى سدرة المنتهى… (٢٠١٠/٧/٢)

٣-٤-٥-٢-المعراج هو تعبير عن رحلة الإنسان الأبدية

المعراج هو تعبير عن رحلة الإنسان الأبدية. القضية هنا، ليست قضية مكان أو زمان، ليست قضية كيف أخذت كل هذه الرحلة ثوان أو لحظات، فالزمان هو في عالم التقييد، أما في عالم الإطلاق، فلا زمان ولا مكان، إن الزمان والمكان، هما أمران نسبيان. كانت رسالة المعراج رسالة موجهة للإنسان أن هناك الكثير الذي لا يعلمه. إن الإنسان يوم يصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه في حياته الدنيوية فإن أمامه طريقا لا نهائي، من معراج إلى معراج. كانت رسالة الإسراء والمعراج هي تعبير عن قضية الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية.. (٢٠١٠/٧/٢)

٣-٤-٦-التذكر في رمزية عيد الأضحى

الأحداث المصاحبة لعيد الأضحى في الماضي وما نقوم به من أفعال حتى يومنا هذا فيها رسائل لنا تبينها الفقرات التالية: العبودية لله في إتيان الفعل وفي استقباله.. الامتثال لأمر الله وإدراك أن ذلك لن يؤدي إلا إلى ما نعقله.. معنى القربان هو تقديم وجودنا لله.. عيد الأضحى يذكرنا بدعوة الناس جميعا للإسلام في حجة الوداع.

٣-٤-٦-١-العبودية لله في إتيان الفعل وفي استقباله

عيد الأضحى نتذكر فيه قضية كبرى، نتذكر فيه قصة إبراهيم عليه السلام وهو يقول لإسماعيل يا بني إني رأيت في المنام إني أذبحك. إبراهيم عليه السلام يمثل معنى العبودية لله الحقة في إيتائه للفعل الذي يرى فيه كسبه في الله وامتثاله لأمر الله. وإسماعيل عليه السلام يمثل أيضا معاني العبودية لله في تسليمه لما يقع عليه ممن يرى فيه وجه الله ورسول الله إليه.. .(١٩٩٣/٥/٣١)

٣-٤-٦-٢-الامتثال لأمر الله وإدراك أن ذلك لن يؤدي إلا إلى ما نعقله

هذا الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام كان لنتعلم كيف أنه في ظهور أمر الحق مباشرة، لا تكون في هذه اللحظة لظاهر الإرادة دور تلعبه، وفي نفس الوقت لنتعلم أيضا، أنه لن يكون في نهاية الأمر إلا ما يعقله الإنسان بظاهر إرادته (ففديناه بذبح عظيم) .(١٩٩٥/٥/١٠)

٣-٤-٦-٣-معنى القربان هو تقديم وجودنا لله

في هذا العيد نتذكر هذا الأمر ونقدم قربانا معبرين به عن فهمنا وعقيدتنا في تقديم وجودنا لله. معنى القربان نجده في كثير من الأحداث الحقية (واتل عليهم نبأ إبني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر18) لأن القضية ليست في تقديم قربان وإنما القضية في نية من يقوم بتقديم القربان. . (١٩٩٣/٥/٣١)

إن القربان في معناه الحقي هو ما تفعله لتقترب من الله. فالرب ليس في حاجة الى تقديم شيء ليرضى. إنما أنت الذي تكسب من قربك، وهذا رضاؤه بالنسبة لك. أنت الذي تريد أن تتخلص من أوزارك، وتتخلص من ظلامك، حتى تكون وجودا نورانيا، يستطيع أن يكون أهلا لرحمة الله ونفحته، ولكرم الله ونعمته (١٩٩٥/٥/١٠)

ما ذبح الأضحية إلا تعبير عن محاولتنا للتخلص من ظلام نفوسنا، حتى نرى الحقيقة في قلوبنا. جاء هذا اليوم ليعبر عن معنى التضحية والفداء، معنى أن يقدم الإنسان نفسه ووجوده لله، وهو يعبر عن ذلك بما يقدمه من قربان. هذه الشعيرة تكون بعد قيامنا في عرفة، في معرفة عن معنى وجودنا، وعن معنى حياتنا، فلا يقدم القربان، إلا ممن كان على معرفة بمعنى حياته، وبمعنى وجوده (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر19)، فالذي يتقبل منه، هو الذي أدرك معنى حياته ومعنى تقديمه للقربان، أما الذي لم يدرك معنى حياته، ولم يدرك معنى تقديمه للقربان، فما تقبل منه. وإن كل مناسكنا هي قربان إلى الله، هي محاولة للقرب من الحقيقة. إن كنا نفعلها ونقدمها ونحن مدركين لما فيها من معان، فإن ذلك يكون إشارة، ويكون سببا، ويكون أملا، ويكون طلبا، ويكون رجاء أن تتقبل. أما إذا كنا نفعلها دون وعي ودون فهم ودون إدراك، لا نقرأ ما فيها من رسالة لنا، فإنا بذلك نكون في حال غير قابل لتلقي ما فيها من معان حقية. (٢٠٠٩/١١/٢٧)

فالقربان هو أن نتخلص مما يعيقنا عن المعراج، نتخلص مما فينا من شيطان يجري منا مجرى الدم (كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم20). فتخلصنا من شيطاننا، هو في أن نقتدي برسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ أن يعيننا الله عليه فيسلم لنا، فيكون قوة في الخير، وليس قوة في الشر. فقد أوجد الله فينا نفسا، لها شهوات ولها رغبات، نفسا أمارة بالسوء. ولكن هذه النفس، إذا أعاننا الله عليها فهذبناها ووجهناها، لأصبحت قوة لنا في الخير. فكل ما أودع الله فينا، قابل لأن يكون قوة في طريق الخير. فإذا كان الله قد زين لنا من أمور الدنيا ما نحبه، من مال ومن سلطة ومن قوة، فإن كل هذه الشهوات، لو أنها سارت في الطريق القويم، لكانت قوة في الخير. فحب المال، ليس آفة في حد ذاته، وإنما يكون آفة يوم يخرجنا عن الصواب، ويوم يجعلنا نطغى أو نعتدي أو نأخذ ما ليس من حقنا، وهو قوة في الخير، يوم يكون دافعا لنا لأن نعمل عملا يفيد الآخرين، وأن نكون بما رزقنا الله نافعين كل إنسان في حاجة، (..ومما رزقناهم ينفقون21). وكل شهوة قد نرى فيها ضعفا إنسانيا، إذا تم تقويمها، فإنها تصبح قوة إيجابية، دافعة للإنسان في طريق الصلاح والفلاح. علمنا الإسلام أن في بعض الأحيان قد تكون صفات حسنة سببا في تأخرنا، إذا لم نحسن استخدامها، (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى22…)، فالصدقة هنا، أصبحت سببا في تأخر الإنسان، إذا اتبعها أذى. وهكذا، نجد أن الصفة التي يتصف بها الإنسان، قيمتها الحقيقية، هي في أن تكون سببا في رقي الإنسان وارتفاع مكانته الروحية. وهذا، هو معنى القربان في واقع الأمر، أنك تحاول أن تقدم ما يدفعك إلى أعلى، ما يجعلك متقبلا من الله… (٢٠١٢/١٠/٢٦)

٣-٤-٦-٤-عيد الأضحى يذكرنا بدعوة الناس جميعا للإسلام في حجة الوداع

عيد الأضحى يذكرنا بقضية إبراهيم - عليه السلام- مع ابنه الذبيح، بدعوته للحج (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلىٰ كل ضامر يأتين من كل فج عميق23). يذكرنا برسول الله وهو يخاطب البشرية في حجة الوداع، وهو يعلمهم دينهم، يوم يكمل للبشرية دينها، ويعلمها معنى الإسلام (.. ورضيت لكم الإسلام دينا..24)، فكان بذلك يعبر عن أن كل ما جاء في رسالته، ما هو إلا تعبير عن الإسلام بمعناه الحقي، وأنكم لتقرأوا الإسلام، اقرأوا ما أتيت لكم به، وما سننته لكم، وبقراءته تقرأون الإسلام، وتعرفون الإسلام تسليما لله، إتباعا لقانون الحياة، والاتجاه لما هو أفضل وأحسن وأقوم في كل مناحي الحياة… (٢٠٠٩/١١/٢٧)

Footnotes

  1. الكهف: ٤٩

  2. العنكبوت: ٦٩

  3. حديث: أبو داود، والنسائي، وابن ماجه

  4. الإسراء: ٨١

  5. البقرة: ٢٥٧

  6. التحريم

  7. القدر:١

  8. حديث: البخاري ومسلم

  9. القدر: ٤

  10. فصلت: ٣٠

  11. القصص: ٥٦

  12. الكهف: ١٧

  13. الذاريات:٥٥

  14. الروم: ١٩

  15. حديث: البخاري ” ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية”

  16. الإسراء: ١

  17. هود: ٤٧

  18. المائدة: ٢٧

  19. المائدة: ٢٧

  20. حديث: مسلم

  21. البقرة: ٣

  22. البقرة: ٢٦٣

  23. الحج: ٢٧

  24. المائدة: ٣