تخطَّ إلى المحتوى

٣-٥-الجهاد

تم تصنيف الجهاد تحت مفهوم العبادة لأن الهدف في النهاية هو الرقي بالنفس من خلال تهذيبها، وإعمال العقل للوصول إلى فكر أفضل، ومحاولة إصلاح المجتمع ليكون أكثر رقيا.

٣-٥-١-مجاهدة النفس وإصلاح النفس والجهاد الأكبر

هناك طرق مختلفة لمجاهدة النفس. الفقرات التالية تبين ست طرق تساعد الإنسان على إصلاح نفسه: يحاول أن يجعل نفسه تنسجم مع قلبه وعقله.. ينهى نفسه عن الهوى.. يغير ما بنفسه من ظلام بقدر استطاعته.. العلم، والعمل المستمر، وعدم التقاعس والتكاسل.. يجعل من الدنيا وسيلة ولا يجعل منها هدفا.. يلجأ إلى الصلاة والدعاء والذكر ليتغير.

٣-٥-١-١-يحاول أن يجعل نفسه تنسجم مع قلبه وعقله

وهل تزكت النفوس فتطهرت وأمرت بالخير، ولم تصبح متثاقلة الى مادي الوجود. وهل ائتلفت وتآلفت أبعاض الإنسان فأصبح في اتزان. فرغب القلب فيما يريد العقل، واستجابت النفس لأمر العقل الذي هو عينه رغبة القلب. فأصبح الإنسان منسجما في وجوده في علاقة حب بينه وبين أبعاضه وجود في تناسق واتساق لا في تنافر وابتعاد. (١٩٧٩/٨/٢٥)

إن أساس الذكر أن يعرف الإنسان بعقله، وأن أساس مجاهدة الإنسان لنفسه أن يذكر القلب، وإن أساس معرفة الإنسان بعقله أن يجاهد نفسه. إنها دورة متكاملة وكلما قمت في أحد من هذه الأمور أدى بك ذلك الى استقامة في قيامك أكثر. إن أوامر الدين قد جاءت لنا لنسلك بقلوبنا وبعقولنا وبذواتنا. فجاءت الأوامر المنسكية لتجعلنا في مقاومة لنفوسنا ومقاومة لرغبات النفس الأمارة بالسوء بذكر القلب وبتأمل العقل (١٩٨١/٢/٦)

٣-٥-١-٢-ينهى نفسه عن الهوى

إن إصلاح النفوس لهو الجهاد الأكبر، ولا يصلح من لم يصلح نفسه. إن ديننا يذكرنا بذلك ويقول لنا (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم1). هذه ليست دعوة للسلبية، ولكن لأن الطريق الطبيعي هو أن نصلح أنفسنا فنصلح من حولنا. إن أي فعل أو عمل يجب أن نرى فيه إصلاحا لنفوسنا، وأن نسلك فيه انطلاقا من رغبتنا الصادقة في إصلاح وجودنا. إنا نتذاكر دوما بيننا بذلك، لعل أنفسنا تستجيب، ولعل عقولنا تفكر وتجيب، ولعل قلوبنا تشعر وتطيب. إن قضيتنا أن نذاكر أنفسنا، وأن نتأمل في أحوالنا، وأن نرقى بصفاتنا، وأن نكون فيمن أعطى واتقى وصدق بالحسنى، وأن ننهى أنفسنا عن الهوى، عن أن تهوى وتتردى الى ما هو أسفل. (١٩٨١/٨/٤)

… ونهي الإنسان عما يبعده عن الجادة، وما لا يكون فيه نفع للناس ولا لنفسه. فكانت كل النواهي في أساسها أنها أفعال لا تنفعه ولا تنفع الناس . إنا نتذاكر هنا بالأهداف الحقيقية لوجود الإنسان، كما نفهمها وكما نتأملها ونتدبرها في آيات الله، وفي سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. لأن البعد عن الهدف، وعدم إدراكه، يجعل الإنسان ينحرف بفعله عن الجادة، فيكون تطبيقه لما أمر به ونهي عنه تطبيقا تلقائيا دون أن يحقق الهدف منه. (٢٠٠٣/٦/٢٧)

٣-٥-١-٣-يغير ما بنفسه من ظلام بقدر استطاعته

إن إكبار قدرة الله وتقديرها هو في إكبارنا وتقديرنا لقانون الحياة (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم2). فإذا تواجد الناس الذين يستطيعون أن يغيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، وإذا تواجد الذين لا يستطيعون أن يغيروا ما بأنفسهم أبقاهم الله كما هم، والله من وراء الكل بإحاطته، ومن وراء الناس في تغييرهم وفي عدم تغييرهم، وهو أقرب الى الإنسان من حبل الوريد في خلقه، في صفاته، في قدرته وفعله، في فكره وحسه، في كل ما يقوم به. (١٩٨٢/٥/٧)

إن الفلاح لا يكون إلا بالجهاد والعمل والتفكر والتأمل وبذل الطاقات والإمكانات ومحاسبة النفس ومجاهدتها على الإنسان أن يحاول ويحاول أن يكون أفضل وأن يكون أقوم وأن يكون أحسن. على الإنسان أن يجاهد نفسه بظلامها مغيرا ما فيها من معنى الظلام ليكون قياما أكبر ووجودا أفضل، وليكون عبدا لله عبدا لله صالحا، ورجلا في الله صادقا. يعلم معنى الحياة ويدرك قانون الحياة.. (١٩٩٠/٨/١٧)

٣-٥-١-٤-العلم والعمل المستمر وعدم التقاعس والتكاسل

وجهاد النفس لا يعني فقط مقاومة الشهوات وإنما يعني أيضا الجد في العمل، والاستمرار في البحث، وعدم التكاسل والتقاعس والتسليم بما هو أدنى. وهذا يحتاج من الإنسان الى قدر كبير من الدفع الذاتي الذي يمكنه من أن يواصل المسيرة، وأن يظل يبحث ويبحث ويتعلم طالما هو قائم على هذه الأرض. أطلب العلم في أي مكان وأي زمان، واعمل الى آخر لحظة في حياتك، بل الى آخر لحظة تعتقد أن بعدها ليس حياة (إن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها3). إنها دعوة الى العلم والى العمل المستمر وهذا من الجهاد الأكبر، حتى لا تركن النفس الى التقاعس والتكاسل والتسليم بما هو أقل.. (٢٠٠٠/٧/٢١)

٣-٥-١-٥-يجعل من الدنيا وسيلة ولا يجعل منها هدفا

ما يجابه كل إنسان هو كيف يجعل من الدنيا وسيلة ولا يجعل منها هدفا. ومن هنا كان الذكر، وكان الدعاء، وكان التجمع على ذكر الله، وعلى طلب الله، وعلى مقصود وجه الله، هو الذي يساعد الإنسان أن يجعل من الدنيا وكل الأهداف المادية وسيلة لأن يكسب حياته أيضا. فلا ينظر إلى هذه الأهداف المادية نظرة منفصلة عن هدفه الكلي، وإنما ينظر إليها نظرة متكاملة معه. من يرى في الدنيا هدفا فإنه يخطئ خطأ كبيرا لأنها سوف تجعله ينشغل انشغالا كاملا بها وبعبادتها وينسى هدف وجوده الأكبر وهو أن يكون عبدا لله. إنه تحدي عظيم، لا ينجح فيه إلا القليل، أما الكثير فلا يستطيعون أن يكملوا طريقهم، ويقعوا في وسط الطريق… (٢٠٠٢/٦/٢١)

… هناك شق في الطريق يرجع إلى الإنسان في مجاهدته لنفسه، في ذكره المجرد بقلبه، في عباداته، في تدريباته، وهو يحاول أن يعمل سر قلبه فيه، سر الذكر فيه، يوم يجعل وقتا لروحه ولمعناه، وهذا هو سر كل العبادات التي أمرنا بها في كل الأديان، أن يعيش الإنسان بروحه، لا يجعل الإنسان الدنيا محور حياته، إنما هى أداه مثل كل أداة. وهذا لا يكون إلا بإعطاء القلب فرصه ليملئ الإنسان بهذا المعنى، فالإنسان إذا فرط في أمر قلبه ملأته الدنيا، وجعلته عبدا لها، أسيرا لهواها… (٢٠٠٤/٦/٢٥)

٣-٥-١-٦-يلجأ إلى الصلاة والدعاء والذكر ليتغير

الإنسان فيه صفات تكشفها الآيات، وتوضح كيف يتعامل مع هذه الأحوال التي يمر بها (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين4). فإذا نظرت إلى نفسك فوجدتك جزوعا منوعا هلوعا، فالجأ إلى الصلاة، الجأ إلى الدعاء، وإلى عون الله، حتى تخرج من هذا الهلع ومن هذا الجزع ومن هذا المنع. وإذا نظرت إلى نفسك فوجدتك لربك كنودا، فالعلاج لحال الكنود، أن تتذكر من أنت، وكيف أنت، وإلى ماذا ستصير، وما هو هدفك ومقصودك، وما هو طلبك ومعبودك (إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير5). قد تظل في حالك الذي أنت عليه فلا تيأس من رحمة الله، واستغفر الله، واستعن بالله. (٢٠٠٨/٢/٢٩)

… الذنب ليس له شكل محدد، إنما الذنب هو ما تراه صوابا في لحظة، ثم تكتشف وقوعك في خطأ فظيع. عليك أن تلجأ إلى الله، وأن تتغير إلى ما هو أفضل. وقد تجد أنك لا تستطيع محاربة نفسك الأمارة بالسوء، فلا تيأس، واستعن بالله، واتجه إلى الله، وأطلب قوة تعينك حتى تخرج مما أنت فيه. إن للذنب أشكالا كثيرة، وأشكالا متنوعة، ليست فقط هذه الذنوب التي نعرفها جميعا، وإنما هي كل عمل لا يؤدي بالإنسان إلى فائدة، أوإلى أن يخدم به آخرين، أوأن يخدم به نفسه، أو أن يطور نفسه، أو أن يعلم نفسه، أو أن يكون به أكثر تقوى، وأكثر طهرا، وأكثر رحمة وتراحما مع خلق الله. إن الإنسان يسير في خطين، خط له علاقة بحياته الدنيوية التي هي وسيلة لكسبه الروحي، والتي أشرنا إليها بمعنى العبودية لله، بأن يفعل الإنسان كل ما في طاقته ليعظم فائدة وجوده. وخط آخر له علاقة بالجانب الروحي والمعنوي في داخله الذي له علاقة بمراقبته لنفسه وما تفعل، وبما يمربه من أحوال وأزمات، وبما فيه من صفات مظلمة قد تؤثر على علاقته بالآخرين، وقد تؤثر على علاقته بنفسه. هذا يحتاج إلى قوة روحية نحصل عليها في صلاتنا، وفي اجتماعنا على ذكر الله، حتى نمر بهذه الأزمات، ونكسب حياتنا، ونخلص في كل ما نقوم به …” (٢٠٠٨/٢/٢٩)

…الإنسان حين ينظر إلى ما يفعله ظلامه، يجد التوجيه الإلهي الذي يناسب هذا الفعل. فحين نتأمل في آيات الله، وهي تتحدث عن الإنسان في ظلامه (إن الإنسان لربه لكنود …6)، تذكرنا الآية بهذا الجانب من مادي قيام الإنسان حين يركز في هذه الدنيا، ويجعل كل همه أن يتفاعل معها، وأن يسيطر عليها، وأن يأخذ منها الكثير. سر الله في الإنسان يقوم في هذه الحالة بتوجيه رسالة إلى هذا الظلام (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور…7). أنظر يا إنسان إلى حياتك القصيرة على هذه الأرض، ولا تجعلها تسيطر عليك كل السيطرة، وإنما خذ منها ما ينفعك في علاقتك بالله، ( إن الإنسان خلق هلوعا…8)، الرسالة التي توجه للإنسان في هذه الحالة أن يدعو الله ويقيم الصلاة، ليساعده ذلك ألا يكون هلوعا و ألا يكون منوعا، (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن…9)، كيف يتخلص الإنسان من هذا الحال، و يعرف أن العلاقة هي علاقة في الله، ليست القضية في نعمة أو في نقمة، المهم أن تعرف كيف تتفاعل مع هذا الحال الذي أنت فيه. (كلا بل لا تكرمون اليتيم…10)، العلاج في هذا الحال هو في محاولتك أن ترى الآخرين، وأن تكون أداة خير لهم، لا أن تنظر فيما تملك فقط، أوفي ما لا تملك، وإنما انظر فيما يمكنك أن تقدمه للناس… (٢٠٠٩/١٠/٢٣)

٣-٥-٢-إصلاح المجتمع

إصلاح المجتمع من الناحية الدنيوية ومن الناحية الدينية يحتاج إلى تغيير الأساليب المتوارثة لمفهوم الدين بحيث لا تؤثر بالسلب على العلوم الحياتية إنما تدفع الإنسان دفعا للعلم، والمعرفة، والعمل والإنتاج. وفي نفس الوقت لا تؤثر الحياة الدنيوية سلبا على قيام الإنسان في حياته الروحية. هذه الفقرات توضح بعض الأفكار لتحقيق ذلك: يتعلم الإنسان ويفكر ويجرب ليعرف أسباب الحياة.. يبحث الإنسان عن قدراته التي يغير بها مجتمعه.. طلب الإنسان للحق غيبا لا يجب أن يؤدى به أن يغفل عن إصلاح دنياه.. قضية التغيير والاستطاعة.. يجاهد الإنسان بعقله، وقلبه، ولسانه ويده.. بناء مجتمع صالح هو البداية التي ينطلق منها أي جهاد.. تغيير الأساليب التي أدت بنا إلى هذا التجمد في مفهوم الدين الذي نشهده في مجتمعاتنا.

٣-٥-٢-١-يتعلم الإنسان ويفكر ويجرب ليعرف أسباب الحياة

فنجاح الإنسان وكسبه ناتج من أن يتعلم ويتأمل ويجرب ليعرف السبب، وليعرف الأداة التي بها يغير ويبدل، فيسخر الطبيعة لخدمته ولارتقائه، ظاهرا وباطنا. فإذا نظرنا الى حالنا، وحال المجتمع حولنا، ونظرنا الى ما أعطانا الله من أسباب، فوجدنانا بظاهر أمرنا، وبظاهر إرادتنا عاجزين، فإنا نتجه الى ما تعلمنا في ديننا أن ليس هناك عجز كلي، وإنما هناك في كل حال ما يمكن به أن نغير، وما يمكن به أن نبدل وما يمكن به أن نصلح فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. أما المؤمنون فهم في دوام بحث عما يفعلون، وعما يعملون، وعما بهم من قوة ليغيروا بها ما يستطيعون، وليصلحوا بها ما اعوج من أمرهم، ومن أمر مجتمعهم… (١٩٨٦/١٠/١٧)

تتوالى علينا المقولات التي تخضع الناس، وتجعلهم لا يفكرون خوفا أن يكفروا، وهذا أمر غير صحيح، فالكفر هو الجهل، هو ألا ترى، هو أن تغمض عينيك، هو أن تلغي عقلك، وأن تلغي قلبك. الإيمان هو أن تسأل، أن تتعلم، أن تكون صادقا في طلبك للعلم، ولا تستبق الأحكام دون أن تتعلم، دون أن تسأل، ودون أن تبحث. نحن مطالبون أن نتساءل بأدب طالبي العلم، وإن كنا لا نعرف نقول لا نعرف، ولا نتوقف أبدا عن طلب العلم والمعرفة لإصلاح مجتمعنا… (٢٠٠٦/١١/١٧)

٣-٥-٢-٢-يبحث الإنسان عن قدراته التي يغير بها مجتمعه

… ينظرون في وجودهم، ويعكسون أبصارهم الى داخلهم، باحثين عن قدراتهم وعن قوتهم، مدركين إنهم ما تواجدوا في ظاهر أمرهم في مجتمع بهذه الصورة، أو في أي مجتمع بأي صورة، أو في أي حياة بكل صورة، إلاوبين أيديهم وفي داخلهم ما به يغيرون، وما به يبدلون.. (١٩٨٦/١٠/١٧)

٣-٥-٢-٣-طلب الإنسان للحق غيبا لا يجب أن يؤدى به أن يغفل عن إصلاح دنياه

إن طلبك للحق غيبا لا يؤدي بك أن تغفل عن الحق ظاهرا مشهودا، إن طلبك للحق غيبا لا يحجب عنك أن ترى ما على الأرض من ظلم وظلام وغفلة وفساد، إن طلبك للحق غيبا لا يكون أبدا سببا لتقاعسك أو إهمالك في أمر نفسك، أو في أمر غيرك، أو في أمر عملك، أو في إصلاح دنيا الى ما ترى أنه الخير. وإن رغبتك الجادة في إصلاح دنياك لا يمكن أن يكون أبدا سببا لأن تبعد عن طلبك للحق غيبا. أما ما نراه في غفلة الناس عن أمور حياتهم بالانشغال بدنياهم، فهو ليس لأن الدنيا في حد ذاتها وإصلاحها يشغل الإنسان، وإنما هو ناتج من ظلام الإنسان وظلمه، ومن عبادة الإنسان لشهواته، ومن عبادة الإنسان لدنياه. (١٩٨٧/٩/١٨)

٣-٥-٢-٤-قضية التغيير والاستطاعة

قضية التغيير والاستطاعة هي قضية تقديرها للإنسان. وليس المقصود هنا بعدم الاستطاعة هو خوف أو قهر. التعامل مع أسباب الحياة هو التعبير الظاهر لقانون الحياة. في كثير من التعاملات لا تستطيع اليد أن تفعل شيئا، ولا يستطيع اللسان أن يفعل شيئا، ولكن القلب دائما يستطيع أن يدعو .(١٩٩١/٥/٢٤)

٣-٥-٢-٥-يجاهد الإنسان بعقله وقلبه ولسانه ويده

فجهاد اليوم هو جهاد العقل، جهاد الكلمة، جهاد المنطق، جهاد العلم، جهاد المعرفة. يتبع ذلك جهاد القلب بالذكر والدعاء، ويتبع ذلك جهاد اليد بالاستقامة في أمور حياتنا، في تنظيمها، وفي تنسيقها، وفي تخطيطها، وفي إصلاحها، وفي إعداد كل ما يلزم لنا في حياتنا، وبأن نكون قادرين أن نعيش اعتمادا على أنفسنا، وأن ندافع عن أنفسنا معتمدين على قدراتنا وطاقاتنا وإمكاناتنا (١٩٩٩/١/٢٩)

الدين هو الحياة، هو أن تفكر فيما يجب أن تكون عليه، وهذا ليس أمرا بسيطا، فيجب أن تشحذ همتك وقدراتك، لخدمة الناس، ولخدمة مجتمعك. انشغالك بما يمكن أن تقدمه، وبما يمكن أن تفعله، يستلزم إعمال العقل في كل أمور الحياة في الدين والدنيا. نجد كثيرا من المقولات التي تتحدث عن أن وظيفة العقل في أمور الدين هي أن تصل إلى الإيمان بالله، فإذا وصلت إلى الإيمان بالله، فعليك بعد ذلك أن تسلم بكل ما قيل دون تفكير. مقولة في ظاهرها تخدع الكثيرين، ويظنوا أن هذا هو الحق المبين. مع أننا لو تأملنا فيها قليلا لوجدنا أنها تلغي وجود الإنسان، وما أعطى الله للإنسان من نعمة العقل، فلا يصبح الإنسان إنسانا، إنما يصبح آلة تتحرك بأوامر دون وعي ودون فهم، ويمتد تأثير هذه المقولة في كل مناحي الحياة، وهذا ليس من الدين في شيء. العقل لازم لك في كل ما تفعله، العقل هو الذي يفسر لك ما تقرأه من أمر وجه إليك، العقل هو الذي يجعلك تميز بين الخبيث والطيب، بين الباطل والحق، بين الظلام والنور، العقل هو الذي يجعلك تسأل، والسؤال هو بداية المعرفة، وهو البداية لأي إصلاح في المجتمع… (٢٠٠٦/١١/١٧)

٣-٥-٢-٦-بناء مجتمع صالح هو البداية التي ينطلق منها أي جهاد

إن بناء مجتمع صالح هو البداية التي ينطلق منها أي جهاد، لا ينطلق الإنسان للجهاد من مجتمع فاسد غير مترابط، ليست لديه مقومات المجتمع والأمة. إن على كل إنسان أن يحاول أن يكون بوجوده مثلا صالحا وبدءا صالحا. أن يكون لبنة صالحة في بناء أكبر (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته11). فليحاول كل فرد في المجتمع أن يكون مثلا صالحا وإنسانا فالحا… (٢٠٠١/١٢/٧)

إن الذين ينادون بالعودة الى الإسلام بشكله وظاهره، دون إدراك للمعنى الذي صاحب الشكل والصورة، هي دعوة في ظاهرها حق، ولكن لا تصلح اليوم وتسبب إشكالات كثيرة. لأن الهدف ليس في الصورة، وإنما الهدف هو في المضمون، وفي الإطار، الذي نشأت فيه هذه الأمة. إنا في حاجة الى علم حقيقي، إنا في حاجة الى مسجد حقيقي، يكون فيه العلم حقا، يكون فيه التوجيه حقا، ويكون فيه تغيير القلوب، وتغيير العقول، وتطهير النفوس، وتزكية الأرواح. يكون فيه الفكر منطلقا، والقلب منشرحا. تكون فيه القوة تدفع الأجساد الى العمل، والى الجهاد، والى الحركة، والى التغيير، والى التطوير، والى البحث والابتكار. لسنا في حاجة اليوم الى دعاوي تشغل الإنسان في أمور تافهة سطحية فيها اختلاف. إن قضية الإنسان الأولى هي أن يحمل دعوة الى نفسه، والى مجتمعه، والى أرضه، فيها معنى العدل. فالعدل أساس كل شيء… (٢٠٠٥/٢/١٨)

٣-٥-٢-٧-تغيير الأساليب التي أدت بنا إلى هذا التجمد في مفهوم الدين الذي نشهده في مجتمعاتنا

إذا نظرنا إلى مجتمعاتنا وتسألنا عن هذه الصراعات بين المذاهب والشيع المختلفة، لوجدنا أن هذا ناتج من عدم استقامة أفراد هذه المجتمعات. علينا أن نغير مفاهيمنا، وأن نغير أسلوبنا، فهذه المفاهيم، وهذه الأساليب التي نتبعها هي التي أدت بنا إلى ما نحن عليه. هي التي أدت إلى هذا الجهل بالدين وبمعناه وبهدفه. هي التي أدت - في كل العصور- إلى ما حدث من صراعات وقتال، بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأمة الواحدة. نحن في حاجة إلى خطاب يدعو إلى تربية دينية سليمة، والى علم صادق في معنى وجودنا، وإلى أن نتعايش بكل اتجاهاتنا في مجتمع واحد. قد يكون هذا الخطاب مستحيلا اليوم في ظل التراكمات من المفاهيم والتفسيرات في ديننا لقرون كثيرة. إننا في حاجة إلى قوة روحية ومعنوية تساند هذه الخطاب حتى يمكن أن يحدث تأثيرا في مجتمعنا. كل إنسان عليه أن يحاول بكل ما يستطيع من قوة لتغيير حال المجتمع إلى الأفضل، لتغيير هذا الجهل الذي صرنا إليه، والى هذا الظلام الذي أصبحنا عليه، وإلى هذا المفهوم في الدين الذي يردد حولنا في كل وقت وفي كل حين. ظلومات تراكمت على مر العصور دون أن يزيلها أحد، ودون أن يكشفها أحد … (٢٠٠٧/٤/٢٠)

.. إنا حين ننظر إلى مجتمعاتنا نجد كثيرا من الأمور لا نرضى عنها، ولا نرضى أن تنسب لديننا، الذي هو مصدر طريقنا، وحياتنا، وسلوكنا. نجد كثيرا من الناس وهم ينظرون إلى الدين نظرة محدودة مقيدة، تجعلهم لا يستفيدون مما في الدين من معان تحييهم وتقومهم، وتجعلهم أكثر معرفة، وعملا وذكرا ونورا. نرى هذه المحدودية في التفكير والتأمل والتدبر، وفي تناول قضايا كثيرة من الدين. هدفنا من الحديث عن مانراه ولا نرضاه هو تحفيز عقولنا لنجد الأسباب لعدم رضائنا، ومن ثم نفهم ديننا بصورة أعمق، مما يساعدنا أن نعبر بأسلوب أفضل عن مفهومنا في ديننا. وفي نفس الوقت ندعو الله أن يوفقنا في قولنا ونستغفره أن نقول زورا، أو أن نغشى فجورا، أو أن نكون به مغرورين. إن على كل إنسان أن يقدم ما يؤمن به، وأن يقبل تصحيحا وتصويبا من الآخرين ومن إخوانه، بل من نفسه إذا وجد حقا كان غافلا عنه، يرجع إليه، ويستغفر الله، ويتوب إليه. هذه مقدمة لما نريد أن نقدمه لكيفية تناولنا لقضايا في مجتمعنا بقدر من التأمل والتدبر العميق.. (٢٠٠٨/٢/٢٩)

كانت الدعوة في مكة دعوة أفراد، في مجتمع غلبت عليه قيم معينة، ونمط في الحياة له شكل محدد، علاقة بما وراء الحياة من خلال تفكير سائد وعادات متوارثة، في شكل تعبدي لا يراه أي إنسان مقبولا من ناحية العقل، وإن كانت الحجة الدائمة كما هي الحجة اليوم وفي كل عصر (…وجدنا آباءنا علىٰ أمة وإنا علىٰ آثارهم مقتدون12)، وما أشبه هذا القول بأقوال بعضهم اليوم، وهم يعبرون عن العبودية لله بطاعة مطلقة لما أمر الله به، بصورة هم يقومون فيها، فهل هكذا يكون الدين؟ أم أن الدين يحتاج من الإنسان إلى أن يفكر فيما يفعله، وفيما يقوم به، وفيما يسمعه؟ لذلك فإن المنهج الذي اتبعه رسول الله قبل البعثة، هو منهج لنا جميعا، فقد اتجه إلى الله، وبحث عن الحقيقة، واختلى بنفسه، وسأل ربه. وما كان تعبد رسول الله في غار حراء إلا تفكرا وتدبرا في حال أمته، وفي حال مجتمعه، وفي بحثه عن الحقيقة. كانت الدعوة بعد البعثة لهذا المجتمع، الذي سادت فيه أيضا قيم اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة، بعضها له جذور حقية، وقيم أخرى خارجة عن ذلك. كانت الدعوة هي دعوة لأفراد ليفكروا ويتأملوا ويشهدوا أن لا إله إلا الله، ويتعلموا من الذي أرسله الله لهم، في شهادتهم، محمدا رسول الله. ولكن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، يرفض الجديد ويصر على القديم، يركن إلى العادات، لا يريد أن يبذل جهدا بفكر، ويركن إلى ما أدرك السابقون.. (٢٠٠٩/١٢/١٨)

٣-٥-٢-٨-يفرز آلية، تمكنه من أن يتعرف على ما فيه من صلاح وفلاح

أساس أي مجتمع صالح، هو أن يفرز آلية، تمكنه من أن يتعرف على ما فيه من صلاح وفلاح، مما هو أحسن وأقوم لحياة المجتمع، ولمعيشته، ولبقائه بصورة كريمة على هذه الأرض. وإن فشل أي مجتمع في أن يفرز هذه الآلية، وأن يجدها، وأن يطورها، وأن ينفذها يؤدي إلى هلاكه، وإلى تأخره، وإلى تفتيته، وإلى أن يكون مجتمعا فاسدا. أساس هذه الآلية هو العدل كما نستطيع أن نقيسه على هذه الأرض، من أخذ وعطاء (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان13)، (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون14) (٢٠١١/١/٢٨)

٣-٥-٣-جهاد فكري وجهاد علمي

هذا الجزء يقدم سبعة طرق للجهاد الفكري والعلمي ليغير الإنسان ظلامه بالعلم والتعلم كما يغير أيضا مفاهيم مجتمعه وأحوالهم في جميع مناحي الحياة إلى الأفضل. النقاط التالية تشرح الأبعاد المختلفة لهذا الجزء: نظر الإنسان لما أودع الله فيه ليغير ظلامه، جهاد بالفكر المستقيم والدعوة الصادقة، إدراك الإنسان بقدر استطاعته لأسرار الحياة حوله، الدين وأوامره أسباب الحياة الحقية، يبدأ بنفسه ويعمل عملا صالحا، الإنسان يتذكر ويتأمل ويتفكر ليتكون في عقله نموذج معرفي لماهية وجوده، يفكر الإنسان وينظر كيف يطبق ما يردد.

٣-٥-٣-١-نظر الإنسان لما أودع الله فيه ليغير ظلامه

الجهاد والمجاهدة، والسعي والعمل، والتأمل والتدبر، والتفكر والذكر الدائم، كل هذه المعاني نخاطب بها في ديننا، ونخاطب بها في رسالة الحق لنا في كل رسالة حق بلغنا بها (قل لهم في أنفسهم قولا بليغا15) قل لهم إنهم مخلوقون للحق والحياة، وإنهم مكلفون أن ينظروا لما أودع الله فيهم، ولما أوجد الله بهم، ولما أفاض الله به عليهم في وجودهم، وفي قيامهم. قل لهم إنهم بوجودهم قادرون أن يغيروا ظلامهم، وأن يحييوا قلوبهم، قل لهم إنهم سر من أسرار الله، وإن لهم مكانة خاصة بين الكائنات في هذه الحياة، حملوا الأمانة، وبلغوا الرسالة، وملأ الله أرضهم برسالات الحق الدائمة الباقية، فكانت أرضهم محلا لرسالات السماء، ولرسل السماء، تحدثوا بنور الحق عليها، فملأوها نورا وقوة وحياة… (١٩٨٨/١٠/٧)

…إن الذي يرفض الدين وشعائره في داخله، ولا يرى في هذه الشعائر أي معنى، ولكنه لا يستطيع أن يجهر بذلك، فيقلد الناس في فعلهم، ولكن في داخله لا يؤمن بهذه الأمور، لن يفيده التقليد في شيء، وإنما عليه أن يتعلم أن يحل مشكلته أولا من داخله. لا نقول بأن يتوقف عن عبادته، وإنما يحاول تكون عباداته عونا له على أن يخرج من شكه، وأن يخرج من جهله. فهذا هو دور العبادات، وليس دور العبادات أن يكون الإنسان قائما فيها بظاهره، وإنما أن تكون وسيلة للدعاء الدائم والمستمر، بأن يعين الله الإنسان على التخلص من معنى الظلام فيه… (٢٠٠٣/١٢/٥)

٣-٥-٣-٢-جهاد بالفكر المستقيم والدعوة الصادقة

الجهاد في الإسلام أشكاله متعددة. فإن كان هناك جهاد بالنفس والمال، فهناك أيضا جهاد بالفكر والقلب. وما كان الإسلام في يوم معتديا أو مكرها أحدا أن يسلك أسلوبا معينا، إنما كانت الحرب في الإسلام من أجل نشر كلمة حق يريد من آمنوا بها أن تصل لكل إنسان، وأن تكون لكل إنسان حريته في اختيار أسلوب الحياة التي يريد أن يعيشها، حريته في أن يقول قولا، وفي أن يظهر فكرا، وفي أن يعلم علما… (١٩٨٩/٥/١٩)

إن الجهاد اليوم ليس فقط بالسلاح، وإنما بالفكر المستقيم، وبالدعوة الصادقة، وبالعلم الصالح، يوم يكون هناك مفهوم صادق، ودعوة صالحة، سيستجيب من عنده قلب سليم، ولن يستقيم الذي في قلبه مرض، وهذا أمر قائم في كل حال، وواقع في كل جماعة وأمة. ولكن على الإنسان أن يبلغ الرسالة، وأن يدعو الى الحق، وأن يتكلم بإسم الحق على ما يرى أنه الحق، متجها الى الله، متوكلا على الله، مستعينا بالله، أن يكون أداة خير وحق. هكذا يكون الجهاد، جهاد فكري، وجهاد علمي، جهاد دعوة، جهاد استقامة، جهاد أن تكون مثلا أعلى لتسمع الأمم منك ما تقول وما إليه تدعو. إنه أمر متكامل أن يكون الإنسان مثلا صالحا ليسمع الناس منه. ولتكن الأمة أمة صالحة لتسمع الأمم منها… (١٩٩٠/١٠/١٢)

إنا في حاجة الى جهاد فكري يمكننا أن نخرج ما بين أيدينا، في صورة تجيب على تساؤلات هذا العصر. وأن نقيم مجتمعا يحمل هذه القيم، ويكون عنوانا لهذه المعاني، ودعوة لها، وحفاظا عليها. مع إدراكنا أن الله بالغ أمره وأن ما صار إليه حال هذه الأمة من ضعف وراءه حكمة، ولكن الإنسان يطمع أن يكون أداة خير لما يرى أنه الأفضل… (١٩٩٩/١/٢٩)

الأحاديث والآيات تحثنا أن نعمل عقولنا حتى نخرج مما بين أيدينا، مفاهيم تدعو الناس الى الحق، وتدعو الناس الى الخير والى الصلاح والفلاح، دعوة الفطرة، دعوة العقل، دعوة الأحسن والأقوم. فهل مجتمعنا اليوم قادر على هذه الدعوة؟ أم أن الماضي بكل رواسبه وبكل أفكاره يجرنا الى الوراء؟ ويكبلنا بأغلال لا نستطيع فكاكا منها بظن دين، وبظن يقين، وبظن إيمان. هذا هو التحدي الذي نجابهه اليوم. هل تستطيع هذه الأمة أن تخرج من هذا الحال؟ أم أنها ستظل جامدة على ما هي عليه؟ تدور في فلك الماضي وقضايا الماضي واختلافات الماضي التي كانت في وقتها أمر يختلف فيه، أما اليوم فهناك قضايا أخرى أكثر عمقا يمكن أن نتحاور حولها… (٢٠٠٠/٢/٢٥)

إن المتأمل في حال مجتمعات اليوم ما بين متدينين متمسكين بحرفية الدين الذي ينتسبون إليه، وما بين رافضين لهذه الحرفية، وتاركين لمعنى الدين في حياتهم، يجد فراغا فكريا شديدا لمعنى وجوده، ولمعنى حياته، ولمعنى الدين بالنسبة له. إن الذين يجدون هذا الفراغ، هم الذين نتحدث إليهم. أم الذين هم في أي صورة من الصور التي تكلمنا عنها، قانعون وراضون بها، فالحديث ليس لهم. إن حديثنا هو حديث متكامل عن معنى الإنسان، لا يفرق بين دين ودنيا. فالدين عندنا هو قانون الحياة الذي يحكم حركتنا، سواء في احتياجاتنا التي نحتاج إليها نتيجة لوجودنا المادي، أوفي احتياجاتنا المعنوية التي نحتاج إليها لوجودنا الروحي. ونحن نفرق بين المقيد والمطلق، فإيماننا بالمطلق أن كل شيء قائم بإرادة الله، وإيماننا بالمقيد أن علينا أن نبذل جهدنا فيما نعتقد أنه الخير. وأن تسليمنا لربنا، لا يمنعنا من أن نبذل جهدنا وطاقاتنا التي أوجد الله فينا لخير الإنسانية والبشرية… (٢٠٠٣/١٢/٥)

٣-٥-٣-٣-إدراك الإنسان بقدر استطاعته لأسرار الحياة حوله

كما يوضح لنا دين الحق كيف نتعامل مع كوننا (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدء الخلق16) (أنظر هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت17) (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..18). إن التفكر لا يعني أن تقف أمام خلق السماوات والأرض متعجبا إنما أن تحاول أن تدرك بقدر ما تستطيع أسرار الحياة حولك… (١٩٩٤/١١/٢٥)

إن الله يخاطب ما أوجد فينا من عقل وقلب. يعلمنا كيف نفكر بعقولنا وكيف نشعر بقلوبنا. يعلمنا منهج الحياة، وشريعة الحياة. فليست القضية أن تردد بلسانك أنك مؤمن، ولكن القضية أن تصل لذلك بعقلك وبقلبك. فما أكثر المرددين، وما أكثر المتكلمين، وما أقل المفكرين الباحثين المتأملين المتدبرين، الذين يعملون عقولهم وقلوبهم، ويتفكرون في كل ما يحيط بهم (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار19). إن دين الفطرة يخاطبنا، ولنستقبل خطابه يجب أن يكون ذلك من خلال إعمالنا لما أعطانا الله. إن بعض الناس يعتقدون أنهم حين يتلقون كلمات الدين، وآياته، عقولهم لا يعملون، لأنه لا إعمال للعقل مع الدين. وهذه مقولة خاطئة لأنك لا تستطيع أن تفهم مجرد الكلمات ودلالتها إلا بإعمال عقلك، والبحث في ذاكرتك عما تعني كل كلمة بالنسبة لك… .(١٩٩٥/٨/١١)

إن الآية (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون20) لا تعنى فقط العبادة القلبية أو المنسكية، إنما تعنى كل ما يفعله الإنسان على هذه الأرض وذلك لقوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق21)، (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار22). ما خلق الله أسباب الحياة باطلا، ولا خلق كل هذه الكائنات باطلا، ولا خلقك باطلا. نفس الإنسان بظلامها، والشيطان الذي يجرى منه مجرى الدم يقول له دائما ألا فائدة من كل شيء على هذه الأرض، فاغتنم لحظتك وفرصتك لعاجل أمرك، ولا تنظر إلى ما بعد ذلك. دين الفطرة يركز على استمرارية الحياة، وأن ما تفعله اليوم بصدق له أثر على حياتك المستقبلية… (١٩٩٦/٩/٢٧)

٣-٥-٣-٤-الدين وأوامره أسباب الحياة الحقية

…إن الله قد تجلى في الكون بقانونه. جاءت الأديان لتعلم الإنسان هذا القانون. وتجلى هذا القانون في أسباب الحياة ما ظهر منها وما بطن. ما ظهر منها عرفناه أو لازلنا نحاول أن نعرفه. وما بطن منها هو غيب علينا. وما كان الدين وأوامره إلا أسباب الحياة الحقية. فحين تؤمر بالقيم المعنوية فأنت تخبر بأسباب حياتك الروحية. وأنت وما فيك من سر الله تحدد ما تحب أن تكون عليه (كن كيف شئت فإني كيفما تكون أكون23) (كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم24). ماذا تحب أن تكون؟ وماذا تريد أن تكون؟ هل تريد أن تكون حجرا في بناء تبنيه؟ أتريد أن تكون جزءا في آلة تصنعها؟ هل تريد أن تكون إنسانا حيا؟ … (١٩٩٥/١/١٣)

كل أمر من أوامر الدين الذي له علاقة بحياة الإنسان الروحية والمعنوية، هو رسالة للإنسان، لتساعده هذه الرسالة على تفهم معنى وجوده، ومعنى قيامه به، والقانون الذي يحكم وجوده وقيامه. هذه الأوامر هي رسائل تأخذها لتقرأها، والذي يفرط في قراءتها سينعكس ذلك على ألا يأخذ ما فيها، فقانون الحياة فعال بصورة آنية. فالصلاة هي وسيلة لمساعدة الإنسان، على أن ينقي قلبه، فإذا لم يفعل، وتراكمت الظلمات على قلبه، فهذا نتيجة تفريطه في أمر نفسه، فإذا كان الإنسان واعيا لهذه المعاني، في أي دين، وفي أي ملة، وفي أي صورة، وفي أي شكل، باتجاهه إلى ربه، وبطلبه العون، فسوف يساعده ذلك أيا كان الشكل الذي يؤديه. في كل عباداتنا يجب أن ينبع أداؤنا لها من قلوبنا، ومن عقولنا بتفهمنا لمقاصد هذه العبادات. فيكون قيامنا بها وفيها مبني على فهم صحيح، ونية صحيحة مما يؤدي إلى إنتاج أثر، في وجودنا وفي قيامنا… (٢٠١٠/٥/١٤)

٣-٥-٣-٥-يبدأ بنفسه ويعمل عملا صالحا

… قل لهم إن عليهم أن يسلكوا طريق الحق، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وأن يجتهدوا في كل كلمة يسمعوها، وفي كل حال يشهدوه (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا25). فالبدء من الإنسان أن يجاهد، والجهاد ليس مجرد سيفا يشهر، إنما الجهاد عمل صالح مستمر، له أدوات كثيرة وله طرق كثيرة. إن كل عمل يقوم به الإنسان، إن تعامل فيه مع الله، كان هذا العمل جهادا له في الله… (٢٠٠٣/٥/٩)

٣-٥-٣-٦-الإنسان يتذكر ويتأمل ويتفكر ليتكون في عقله نموذج معرفي لماهية وجوده

إن الطريق يعلمنا ويرشدنا ويوجهنا إلى المفاهيم الحقيقية، وإلى المعاني الأساسية حتى يتكون في عقولنا نموذج معرفي لماهية وجودنا، وهدف قيامنا، وهذا مطلوب للإنسان. آيات الحق تشير دائما إلى هذا الحال، يوم تتحدث عن الذين يتذكرون ويتفكرون ويتأملون. يتفكرون في خلق أنفسهم، يتفكرون في ظواهر الحياة حولهم. كل ما تذكره الآيات هو وسائل للتعلم وللتفكر، وسائل للعقل حتى يبني نموذجه المعرفي، عن معنى وجوده في هذه الحياة، وعن علاقته بالكائنات من حوله. هذا شق أساسي في الطريق، وهذا ما يتم من خلال المذاكرات والأحاديث والمناقشات، والتواصي بالمعاني الحقية، حتى يتكون لدى الإنسان إدراك لمعني وجوده، وهدف قيامه… (٢٠٠٤/٦/٢٥)

حين نقرأ آيات الحق بدون أي تحيز، وأي مفهوم سلفي، قد نصل إلى حقيقة مختلفة تماما عما إذا قرأناها ونحن نعتبر التفكير السلفي. إن كل إنسان مسئول، وإن كل عالم مسئول، وإن كل قادر على أن يتفهم ويتدبر آيات الله مسئول، لذلك قال أحد الصوفية: إن الفقيه الحقيقي هو الفقيه المجتهد، هو الفقيه الذي يصل إلى النتائج بنفسه. ولكننا يا للأسف اليوم لا نرى إلا من يقال عنهم بلغة السلف إنهم فقهاء مذاهب، أي أنهم غير قادرين أن يبحثوا في النصوص الأصلية وأن يصلوا إلى نتائج مختلفة عما وصل إليه السابقون. لا يجرؤ أي فقيه اليوم أن يفعل ذلك، لا لأنه ليس قادرا، ولكن لأنه مكبل بهذا التفكير السلفي. لقد لغي المجتمع عقله، ولغى العلماء عقولهم، وأصبحوا ببغاوات يرددون ما يتوقع أن يسمع. أصبحت السمة العامة في المجتمع أنه إذا طرحت قضية فمعروف إجابتها، وإذا سؤل فقيه فهو متوقع منه أن يجيب بإجابة معروفة مسبقة. فإذا اجتهد إنسان، أو عبر عن رأيه بصورة مختلفة عما هو متوقع، أصبح متهما في دينه، وفي عقيدته، وفي علمه. هذا حال عام ليس فقط في الدين، ولكن في كل شيء، لقد أصبحنا أسرى مفاهيم بائدة، لا نستطيع فكاكا منها وإنما ندور في فلكها. نحن في هذا الحال سواء كان حالا ماديا في دنيانا، أوحالا ثقافيا، أوحالا دينيا. نحن في حاجة أن نخرج من هذا التثاقل إلى الماضي، ومن هذه الحلقة المفرغة التي ندور فيها… (٢٠٠٦/١٢/١)

…نحن لا نيأس من رحمة الله، وقد جعل الله لكل إنسان نورا فيه، وعلمه أن عليه أن يهدي نفسه، وإذا هدى الله به رجلا واحدا فهذا خير له من الدنيا وما فيها. ليست قضيتنا أن نزيل كل هذه الظلمات، إنها قضية كل إنسان، وليست قضية فرد واحد. نحن نفرق بين هدف تريد أن تصل إليه وتعتقد أنه صلاح الأمة، وهذا أمر مشروع لكل إنسان أن يتصوره، وبين التحقيق الفعلي لهذا الهدف. لا يعني عدم تحقيق هذا الحلم أو هذا المشروع أن الإنسان ييأس من رحمة الله. فقضيته أن يحاول وأن يجتهد وأن يجاهد، وأن يخاطب نفسه، وأن يهدي نفسه، وأن يدعو ربه أن يهدي الناس جميعا، وأن يصلح الأحوال، وأن يرفع الظلمات، وأن ينشر العلم، وأن يرفع الجهل، عليه أن يدفع بذلك حتى وإن ظن أن الظلمات كثيرة ومتراكمة، عليه أن يكون أمله في الله كبير، وأن يؤدي دوره، وأن يزرع شجرة، وأن يضع طوبة في بناء كبير، وأن تكون حياته جهادا في الله، واحتسابا لوجه الله، وتعاملا مع الله، وأن يرجع البصر إلى داخله، والى فطرته، ليتعلم مما فطره الله عليه، ليكون إنسانا صالحا، وإنسانا نافعا… (٢٠٠٧/٤/٢٠)

٣-٥-٣-٧-يفكر الإنسان وينظر كيف يطبق ما يردد

لو أننا توقفنا بالزمن عند اللحظة التي كانوا يروجون فيها لمعنى تطبيق شرع الله دون حاجة إلى تشريع أو تقنين، وظننا أن هذه هي الحقيقة المطلقة، ما وصلنا إلى تفكير اليوم. إن التغيير الذي يحدث هو نتيجة أن هناك من يقول فكروا وتدبروا وانظروا إلى مصلحة الأمة، وانظروا إلى كيف تطبقون ما تقولون، ليست القضية مجرد كلمات وليست مجرد شعارات، وإنما يجب أن تتحول إلى واقع يعيشه الناس ويشعرون بأثره عليهم وبتأثيره فيهم، وأن ما تظنون أنه حكم الله هو مفهومكم في آية أو في حديث أو في واقعة، وهذا المفهوم يمكن أن يتغير كما تغيرت مفاهيم كثيرة. إنا حين نتأمل فيما حدث وفيما يحدث نتعلم أن محاولة البحث، ومحاولة الاجتهاد، ومحاولة نقد كل مفهوم ومراجعته، كما يحدث في هذه الأيام لبعض الجماعات المتطرفة المغالية في مراجعاتها لأفكارها ولمعتقداتها، بنفس المصادر التي كانت تستخدمها لترويج أفكارها المغالية، تستخدم نفس هذه المصادر لطرح رؤيتها الجديدة. كل هذا يجعلنا لا ننساق وراء كلمات باسم الدين أو وراء أفكار باسم الدين، وإنما علينا أن نبحث وأن ندقق في كل فكر وفي كل قول وفي كل اتجاه، وأن نرجع وأن نراجع وأن نسأل وأن نتعلم… (٢٠٠٧/٥/١١)

إن الحقيقة واحدة، ولكن مفاهيمنا تتعدد، وطرقنا تتعدد. ما يصلح لمجتمع سوف يصل له هذا المجتمع بالممارسة وبالبحث، وبتدبر ممارسات المجتمعات الأخرى وتجربتها، وما وصلت إليه. نحن في عصر نضجت فيه بعض المفاهيم نتيجة تجارب شعوب ومجتمعات في الشرق وفي الغرب. إذا كان الغرب قد وصل إلى ما وصل إليه من نظام سياسي يسمح بتداول السلطة بصورة سلمية، ويسمح للشعب أن يكون رقيبا على حكامه، حتى ولو كان هناك بعض التجاوزات، فإن الصورة والنظام هناك أفضل كثيرا من مجتمعاتنا ومن بلادنا الإسلامية ومن مجتمعاتنا العربية، سوف تجد أن هذا النظام الذي وصلوا إليه نتيجة تجارب – وفي بعض الأحيان ثورات – موجود في رسالة الفطرة… (٢٠٠٧/٥/١١)

… الاتباع هو اتباع منهج، اتباع طريق، اتباع أسلوب، اتباع طريقة، وهذا ما علمنا الإسلام إياه. كثير من الآيات تحدث عقولنا، وتعطي الأسباب، وتبين العلة، وتوضح القصد، هذا هو الاتباع والمتابعة. ورسول الله كان قدوة لنا، فيستشير أصحابه، فيما يجب أن يكون في أمر دنياهم، فيما يجب أن يقوموا به، وفيما يجب أن يفعلوه، ويوضح لهم أيضا ما جاء به من أمور دينهم، فيعلمهم أن كل ما أمرهم به هو لمساعدتهم، (وكم من مصل لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا26). فإذا هناك هدف ومقصد من إقامة الصلاة يجب أن يكون مفهوما للإنسان، لتستقيم نيته في إقامتها، فهي ليست فعلا مطلوبا لذاته، وإنما هي فعل مطلوب لما يمكن أن يحققه في الإنسان من تغيير إلى الأفضل. فالمتابعة هنا والاقتداء هي أن نقوم في الصلاة كما وضحها لنا رسول الله في قيامه بها شكلا وموضوعا. أوامر الدين ليست أمورا مطلقة لذاتها، وإنما هي مطلوبة لتغيير الإنسان، ولتعطي أثرا في الإنسان… (٢٠١٠/٥/١٤)(٢٠١٥/٢/٢٠)

Footnotes

  1. المائدة: ١٠٥

  2. الرعد: ١١

  3. حديث: مسلم

  4. المعارج: ١٩

  5. العاديات: ٥-١٠

  6. العاديات: ٥

  7. العاديات: ٩

  8. المعارج: ١٩

  9. الفجر: ١٥

  10. الفجر: ١٧

  11. حديث: أخرجه البخاري وآخرون

  12. الزخرف: ٢٣

  13. الرحمن: ٧

  14. المطففين: ٢، ٣

  15. النساء: ٦٣

  16. العنكبوت: ٢٠

  17. الملك: ٣

  18. آل عمران: ١٩١

  19. آل عمران: ١٩١

  20. الذاريات: ٥٦

  21. العنكبوت: ٢٠

  22. آل عمران: ١٩١

  23. لم أجد له مرجع ولكن هناك حديث “إنما يرحم الله من عباده الرحماء” رواه البخاري وهو يدل على معنى الحديث

  24. الإسراء: ٥٠

  25. العنكبوت: ٦٩

  26. حديث: الطبراني