تخطَّ إلى المحتوى

أحاديث الفترة من ٢٠١٦- ٢٠٢٠

٢٣٨ - الإيمان بالغيب والشهادة وعلاقتهما بالعبادة وإدارة المجتمع

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/١/١

” … هناك جانب غيبي في حياة الإنسان، وهناك جانب مشهود على أرضه. الجانب الغيبي أساسه أننا جميعا ندرك أننا لا يمكن أن نحيط بكل شيئ. والجانب المشهود هو أننا إذا تعاملنا فيجب أن يكون عملنا قائما على الصدق والأمانة والإخلاص والعدل في كل معاملاتنا، بما نستطيع أن نطبقه من هذه القيم الكلية. وأن أساس علاقة الإنسان بالغيب هو بما يستطيع أن يدركه وبما يستطيع أن يقوم فيه، وبأن يكون صادقا مع ما يعتقده. فإذا كان يعتقد حقا أن الله غيب، حاول أن تكون علاقته بهذا الغيب من خلال قيامه في أمر تعبدي، أو في حال تعبدي، يتجه فيه إلى هذا الغيب بكل حواسه، بعقله، وقلبه، ودعائه، ونيته، مدركا أن خالقه يسمعه، (…أبصر به وأسمع…) (…ادعوني أستجب لكم…) ، وهذا أمر يخصه، لا يستطيع أحد أن يفرض عليه شيئا، فما في داخل الإنسان هو ملك الإنسان، لا يستطيع غير الإنسان أن يدخل إلى ما في الإنسان من أسرار وأفكار ونيات. وفيما يخص الإنسان على أرضه في معاملاته، فالمجتمع هو الحاكم لذلك، بما يسنه من قوانين وبما يضعه من قواعد للتعامل بين أفراده، وما يضع من أحكام لمن يخرج عن هذا القانون. فهذه قضية المجتمع، والدين وضح ذلك، (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…) وبالنسبة للإنسان، فقد أمر الله كل إنسان أن يكون مسئولا، (…لا تزر وازرة وزر أخرى…)، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)،“فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). فالأساس هنا هو الإنسان، لا يستطيع فرد أو جماعة أن تتحدث باسم الله، فالله أكبر عن أي صورة وعن أي شكل، وإرادة الله أكبر عن أي صورة وعن أي شكل، وقد أعطى الله الحرية للإنسان يوم قال: (إني جاعل في الأرض خليفة…). وخلافة الإنسان على الأرض، تعني أنه يطبق ما يفهم أنه الحق وأنه الخير وأنه الصلاح. والخلافة هنا على نفسه، وللمجموع على المجتمع؛ لأن الجميع خلفاء. فإذا كان الإنسان سيد نفسه، فلا يمكن أن يكون إنسان سيد للآخرين، وإنما السيادة في المجتمع للمجتمع بأفراده، ولهم أن يضعوا المعايير والطرق التي تمكنهم أن ينفذوا ذلك على أرض الواقع. وهذا، ما طورت البشرية من نظم مختلفة بالفطرة ، لاختيار مندوبين عن مجتمعاتهم، يجتمعون ويتشاورون لسن القوانين التي تحكم مجتمعاتهم ، ويرجعون إلى الأمة إذا لم يتفقوا. وقد وصلوا بذك إلى صيغ مختلفة…”

تعليق:

حديث عن الإيمان بالغيب والشهادة وعلاقتهما بالعبادة وإدارة المجتمع. الجزء المختار هنا هو الخطبة الثانية من الحديث بعد إجراء بعض التغييرات الطفيفة

مفاهيم دالة :

٢٣٩ - تأمل في آيات سورة الفاتحة

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/٢/٥

” … فاتحة الكتاب هي ما أمرنا أن نصلي بها، والصلاة مرتبطة بمعانيها، وبأن نقرأها بتمعن وتفهم. نبدأ دائما (بسم الله الرحمن الرحيم)، وندرك أن الله هو (رب العالمين)، مما يجعلنا نشعر بارتباطنا بكل من على هذه الأرض. فربنا الله، والحمد دائما لله، والفضل دائما لله، ولا موجود بحق إلا الله، وهذه أول الإشارات إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان في إحساسه بإخوانه على هذه الأرض، وبكل الكائنات عليها. فإذا عكس الإنسان بصره إلى داخله، ووجد فيها ذرة من كبر، ومن تمييز وتميز، ومن استعلاء وتفرد، ومن تخصيص جماعة دون أخرى، ومن تفضيل إنسان على إنسان ـ فإن أو خطوة يجب عليه أن يخطوها أن يصلح هذا الفهم. وإصلاح الفهم ـ وإن كان فيه بعض الصعوبة لمن تراكمت المفاهيم الخاطئة على ذهنه ـ إلا أنه ممكن والإنسان قادر عليه. وقد يكون هذا التغيير أسهل من أن تغير عادة تعودت عليها في نفسك وفي أحاسيسك. فالتغيير هو مقياس مدى قدرتك على الإنجاز. لذلك، فإنا نبدأ دائما بإصلاح المفهوم. فمفهوم أن الجميع عباد لله وخلق الله، هو أساس نبني عليه، وعلاقتنا بالله هي علاقة رحمة، (…الرحمن الرحيم)، رحمن، هي رحمة لا يمكنك أن تحيط بها، وتفرد بها الله عن خلقه، ورحيم صفة تجلى بها في خلقه، فأمرنا أن نكون رحماء بيننا، وأن يعذر بعضنا بعضا، وألا يتكبر أحدنا على الآخر، وأن نتواضع للناس جميعا (من تواضع لله رفعه). وندرك أيضا ـ وهذا أيضا أمر إدراكي ـ ألا يستطيع أن يحكم إنسان على إنسان، وإنما الملك لله، وأن كل إنسان له طريقه، وأن هناك قانونا يحكم ما سيلاقيه كل إنسان، فنفهم (ملك يوم الدين)، فإذا أدركنا ذلك، أصبح علينا أن نغير ما في داخلنا من أحاسيس تجاه الآخرين. فنحن نعلم أننا جميعا عباد الله، وإنما قد يسخر قوم من قوم، وقد أمرنا (..لا. يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم…). فهذا شرح لـ (…رب العالمين)، ولعلاقتك بهؤلاء الناس جميعا. فإذا وجدت نفسك كذلك، فإنك تذكر نفسك بقانون الحياة (إياك نعبد…)، تذكر نفسك بأن قانون الحياة هو أن تكون متآلفا مع خلقه، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وتدرك أن الله قد تجلى عليك بأسبابه وقانونه، فأنت تقر بذلك في معنى إقرارك بعبوديتك له. ولكنك تعلم أن التغيير المطلوب في السلوك، وفي الشعور، وفي المعاملة، يحتاج إلى قوة. وقد نفهم القضية، ولكن إذا نزلنا إلى أرض الواقع لننفذها وجدنا صعوبة، وهذا واقع لا ندعيه، إنما يشعر بذلك الكل. فالواقع هنا، والتعامل معه يحتاج إلى قوة. فبمن تستعين؟ (إياك نستعين)، (يا بني إن سألت فاسأل الله وإن توكلت فتوكل على الله). فماذا نطلب أن نكون؟ نطلب الصراط المستقيم، (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم…). ومن هؤلاء الذي أنعم الله عليهم؟ هم الذين لا يكذبون بالدين. ومن هؤلاء الذين يكذبون بالدين؟ (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم). هنا، يشرح لك المواصفات التي تلاحظها في وجودك، حتى تعرف أن كنت من الذين أنعم الله عليهم. وإن لم تر أنك منهم، فعليك أن تسأله أن يعينك على ذلك، وأن يهديك لذلك، فلا تدع اليتيم. فإن رأيت نفسك غير قادر على العطاء، وأنك لا ترى إلا نفسك، ولا ترى إلا مطالبك واحتياجاتك، ولا تشعر بالآخرين، فإن كانت فيك ذرة من فهم، فسوف تسأل الله أن يعينك حتى لا تكون كذلك، تكون من الذين يحضون على طعام المسكين، ويراعون اليتيم. واليتيم هنا هو كل إنسان في حاجة إليك، أو تستطيع أن تقدم له خدمة، وهذا هو المعيار الأساسي. كما يحذرك الله أن تكون من الذين يعتقدون أنهم يصلون، أو أنهم يعبدون الله بمجرد قيامهم في شكل، والله أعلم بعباده ويعلم أن من هؤلاء الكثير، فينبهك إلى ذلك، (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون”، ساهون عن معنى الصلاة، عن معنى أن الصلاة دعاء وطلب ورجاء. ويكشف لك أيضا عن بعض الناس حتى تقيس نفسك، أنت منهم أم لست كذلك؟ (الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون). إنا هنا أمام معايير يمكن للإنسان أن يلاحظها في نفسه حتى يكون في مراجعة لها دائما، وهذا ما أشرنا إليه في البداية من أن الذين تحققوا في الله، بمعنى أنهم تغيروا وغيروا ما في داخلهم، هو بمراعاتهم وقراءاتهم لما يحدث حولهم، وبتفاعلهم مع خلق الله، بهذا التفاعل استطاعوا أن يغيروا ما بأنفسهم، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هكذا نتعلم قانونا من قوانين الحياة، (…ادعوني أستجب لكم…). والدعاء هنا، هو أن تتجه إلى داخلك، وترى ما تحب أن تغيره فتدعو. تغيرك هنا، أنك رأيت ما لم تكن تراه، إن هذا تغيير كبير. فقد يعيش الإنسان حياته كلها ولا يرى ما فيه من عيوب، ظانا بأنه هو الأقوم والأفضل والأحسن. فإذا تعرفت على عيب من عيوبك، فهذا تغيير. وإن دعوت الله أن يساعدك على تغييره، فهذا تغيير. وإن رأيت استجابة الله لك بأن استطعت أن تخطو خطوة إلى الأمام في سبيل هذا التغيير، فهذا تغيير، وهذا تحقق، وهذا كسب. وإذا لم تجد ذلك، فلتدعو الله أكثر، ولتسأل الله أكثر، ولا تيأس من روح الله، ولا تيأس من كرم الله، ولا تيأس من فضل الله، وهذا معنى (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم…)، ما يعني الاستمرارية الدائمة حتى مع رؤية أن هناك عدم تغيير في نفسك، لا تيأس من روح الله، تذكر نفسك دائما بهذه الآية (…ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). وعذاب النار أن نظن أن الله قد خلق هذا باطلا، فحين تعتقد ذلك، فلا معنى لمجاهدة، ولا معنى لأن ترى هناك أفضل، وأن هناك ما يجب أن تغيره، لأنك سوف ترى أن كل شيء يظل على ما هو عليه بحالك، بظلامك، بأفعالك، بشهواتك، برغباتك، دون وعي ودون فهم لمعنى وجودك. …”

تعليق:

هذا جزء مقتطع من حديث فيه تدبر في معاني آيات فاتحة الكتاب وهو يجيب عن تساؤل بدء به الحديث: “نتساءل دائما عن الطريق الذي علينا أن نسلكه لنكسب حياتنا، ولنعيش عيشة راضية، نستطيع من خلالها أن نتعامل وأن نعمل لما يحيينا، وأن نكون على أرضنا في سلام وفي توافق مع أحوال الحياة حولنا ـ وسوف نجد هذا الطريق في آيات الله لنا، مما نقرؤه في قرآننا…”

مفاهيم دالة :

٢٤٠ - منهج مقترح لقراءة الآراء القديمة يشجع على إعمال ما أعطى الله الإنسان للتدبر فيه سواء بإتباع هذه الآراء أو بنقدها بالنسبة لما يخصه منها وفيما له ولاية عليه

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/٣/٤

” … ما أردنا أن نذكر به أنفسنا اليوم: هو أننا حين نقرأ، علينا أن نتفكر فيما نقرؤه، وأن نسأل أنفسنا ما هذا الذي يقوله من نقرأ له، هل يخبرنا عن أمر ينفعنا، أم يخبرنا عن معلومة مؤكدة، أو يخبرنا عن ظن، أو يخبرنا عن رأي. وإذا كان يخبرنا عن معلومة مؤكدة، فكيف أكدها وكيف علمها؟ وإن كان يحدثنا عن رأي، فما هي مبرراته، وكيف نستفيد منه؟ أما إن كان عن ظن، فلماذا هذا الظن، ولماذا نتبع الظن؟ يجب أن نتفكر في كل قراءة، في كل معلومة، في كل رأي، حتى لا نردد أشياء لا نفهمها ولا نعقلها، أو نردد أمورا على أنها معلومات حقية، دون أن نعرف كيف وصل من قالها إليها، وما فائدتها. نريد أن نكون دائما متفكرين فيما نقرؤه، متدبرين له، غير مسلمين قيادنا لأي فكرة دون أن نكون مدركين لها، ولا أن نردد قولا لأنه صدر من أي مصدر، دون أن نعرف صحة هذا المصدر وفائدة ما نردده، وهل نعقله أم لا نعقله. فنحن حين ننظر في فكر بعض الجماعات المتطرفة التي تغلو في الدين، وترى أن كل ما قاله السلف هو حق، وأن علينا أن نطبق الدين كما طبقوه. ولكن في واقع الأمر نجد أنما تريد تطبيقه هو فهمها فيما قال به السلف، وليس فيما قال به السلف أنفسهم. وهذا ليس دفاعا عن كل الآراء القديمة لأن بعضا منها له تأثير ضار في حاضرنا. ويسري هذا أيضا على آراء الفلاسفة والمتصوفة، فليس كل ما قالوه يجب أن نردده أو يجب أن نطبقه، فأيضا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، قد نكون أقل منهم ولا نعرف ما يقصدون، ولكن هذا لا يجعلنا نردد ما يقولون دون فهم ودون وعي. لأننا حين ننظر حتى في حديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فبرغم ما ناله هذا الحديث من رعاية وتدقيق، إلا أننا نجد في أصح كتب الحديث، ما نقف أمامه ولا تستسيغه عقولنا، وقد يكون ذلك لعدم فهمنا، وقد يكون ذلك لأننا تمسكنا بحرفيته ولم ننظر إلى دلالته، وقد يكون ذلك لأن هناك من أدخله ونقله دون وعي ودون فهم. فإذا كان هذا قد حدث لما صدر عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه، فألا يمكن أن يحدث لأي ولي أو صالح أو معلم، أو أيا ما تسميه، أن ينسب إليه ما لم يقله، وربما حرف الناقلون ما قاله، أو ربما استخدم تعبيرا غير مناسب في قوله لم يكن يقصد به ما تحمله الكلمات تماما. حين يتكلم إنسان عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، ويصف ما هو عليه، أو يخبرنا من هو، أو يخبرنا أن صفاته كذا وكذا، أو يحدثنا عن كمال صفات الله فيه بصورة مطلقة، أو يخبرنا عن حال له يتعالى به عن أنبياء ورسل الله، (خضت بحرا، وقف الأنبياء بشاطئه) ربما هو يقصد أمرا فيه مبالغة لما يرى فيه حاله مع الله وإحساسه بالله، وهذا شأنه. ولكن إن نظرت إلى هذه الكلمات على أنها ما تحمله بحرفتيها، فليس هناك رد. فكيف أحاط بكل الأنبياء والرسل، وكيف عرف مقاماتهم، بل وكيف عرف مقامه، وكيف يتوافق ذلك مع ما أمرنا به من أن نتواضع لله، ومع ما أمرنا به من خشية الله، وما كان عليه رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه)، (ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يفعل بي غدا). فهنا ندرك أننا لا يجب أن ننبهر بهذه الكلمات، أو أن نرددها دون وعي ودون فهم، بل أن علينا أن نتبع منهج رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منهج قائم على العبودية لله، على التواضع لله، على خشية الله، على أن ندرك معنى (…ويحذركم الله نفسه). وحين نتحدث عن نفس الله في هذه المقولة، فإنها قوانينه، وقوانينه فيها كل شيء، فيها أن يشعر الإنسان بالتواضع لله وأن يشعر الإنسان بالعظمة، فيجب على الإنسان أن يتعامل مع كل هذه القوانين. تعامله مع هذه القوانين هو في أن يتوازن بينهم، أن يتعلم حين يرى نفسه في عظمتها أن يتواضع لله (…إن الله لا يحب كل مختال فخور) وفي نفس الوقت إذا شعر الإنسان بضآلته وافتقاره يتذكر حديث: (ما ظهر الله في شيء مثل ظهوره في الإنسان)، وأن الإنسان حمل الأمانة، وأن بما فيه من ضآلة إلا أنها تمكنه من أن يفعل الكثير، فليقدر ما فيه من طاقة على ضآلتها وعلى قلتها، فلا ييأس من روح الله، وإنما بما فيه من هذا القدر من الحياة يمكنه أن يفعل الكثير. لكل حال مقال، ولكل حال آية، ولكل حال سلوك، فواجب علينا أن نتعلم هذه الآيات التي تقوم سلوكنا وتيسر طريقنا، فلا ننسى ضعفنا ولا ننسى قدرتنا، نخشى الله دائما، ونعتز بالله دائما، فإنما (…لله العزة ولرسوله وللمؤمنين…). لا نعتز بأنفسنا، وإنما بما أودع الله فينا من أمانة الحياة، بها نحن قادرون، وإذا اغتررنا بها فنحن خاسرون. هكذا نتوازن بين افتقارنا إلى الله وبين عزتنا بالله، نقول ذلك حتى نستفيد من كل قول، فنقرأه ونتعلمه في إطاره الصحيح، دون إفراط أو تفريط…”

تعليق:

هذا الحديث يقدم منهجا لقراءة الآراء القديمة ويشجع على إعمال ما أعطى الله الإنسان للتدبر فيه سواء بإتباعها أو بنقدها بالنسبة لما يخصه منها وفيما له ولاية عليه.

مفاهيم دالة :

٢٤١ - سبيل الله ليس فقط في حرب أو صراع مادي، وإنما هو مواصلة المحاولة على هذه الأرض فيما أنت قائم فيه، تريد أن تغيره إلى أفضل

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/٤/١

”… إننا وإن كنا نشعر بضآلتنا في هذا الكون، وبضآلة ما نعلم ونعرف، إلا أننا يجب أن نعمل بما نعلمه، وأن نحاول أن نتعلم أكثر، فهذا القليل النسبي بالنسبة لعلم الله هو كثير جدا بالنسبة لنا. بل أن في هذا القليل ما يكسبنا هذه الحياة، وما يغيرنا إلى ما هو أفضل وما ينطلق بنا إلى ما هو أعلى، وهذا سر الحياة فينا، وهذه هي أمانة الحياة التي حملها الإنسان. والحياة التي حملها الإنسان ليست في أن يجعله ذلك يتحرك، أو يتعلم، أو أن يفعل أفعالا بعينها فقط، وإنما هذه الحياة تكسبه حياة دائمة، حياة أبدية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). وسبيل الله ليس فقط في حرب أو صراع مادي، وإنما هو مواصلة المحاولة على هذه الأرض فيما أنت قائم فيه، تريد أن تغيره إلى أفضل وإلى أحسن وإلى أقوم. هذا الذي تحاوله هو تفاعلك مع هذه الأرض، تفاعلك مع هذا الواقع، فلن تكون عبدا لصورة، أو شكل، أو خرافة، أو ظن علم أو معرفة أو دين، وإنما تكون عبدا لله. والعبودية لله تعني أنك تكبر الله عن أي شكل وصورة، وتتعامل مع الله فيما تجلى به عليك؛ في قوانينه التي أوجدها، وفي أسباب الحياة التي مكنك من أن تعرفها، أو أن تعرف بعضها، أو تعرف قليلا منها. وعبودية الله هي إدراكك للغيب، وللشهادة. إدراكك للغيب هو أن كل شيء الله وراءه بإحاطته (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا)، إرادة كلية، وإحاطة كلية، ومشيئة كلية. وشق الشهادة في العبودية هو أن تصدق فيما تجلى الله به عليك، في قوانينه الأرضية، وفي أسبابه الحياتية، (…قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق…)، (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض…)، ويدركون أن (…ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). وعذاب النار هو ألا يكونوا أحياء، ألا يستجيبوا لما يحييهم، لا يستجيبون لله ولرسوله وهو يدعوهم لما يحييهم هذا هو عذاب النار الذي تشير إليه هذه الآية في تأملنا وتدبرنا لها. هؤلاء الذين استجابوا لله ولرسوله وهو يدعوهم لما يحييهم، هم الذين يعملون، هم الذين يغيرون، هم الذين يتعلمون ، هم الذين يبحثون عن الحقيقة، هم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، يذكرونه غيبا، ويذكرونه شهادة في أحوالهم، هم الذين يتحابون، يتألفون، يرجون الخير لهم ولكل إخوانهم، لا يحقدون ولا يكرهون، قلوبهم صافية وعقولهم منيرة، يبحثون عما هو أفضل لهم ولغيرهم، يتجهون ويتعاملون مع الله في كل أحوالهم، لا يرجعون إلا لله، ولا يطمعون إلا في الله، ولا يسألون إلا الله، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله…”

تعليق:

عن الغيب والشهادة كان هذا الحديث، وإيمان الإنسان بالغيب أن الله وراء كل شيء بإحاطته، وإيمان الإنسان بالشهادة أن يبزل كل علمه وطاقته وإن كانت قليلة ليغير ما هو مشهود له إلى الأفضل الذي يراه

مفاهيم دالة :

٢٤٢ - علاقة الإنسان بالله هي علاقة عبودية أما علاقة الله بالإنسان فهي علاقة مجردة كلها نور، وكلها رحمة، وكلها محبة لا يمكن أن تصفها كلمات

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/٥/١٣

”… عبادتنا لله فيما هو غير مشهود لنا قائم على إيماننا بالغيب، (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب…). إيماننا بالغيب، وإدراكنا أننا لا نستطيع أن نحيط به، أو أن نعرفه، أو أن نعلمه، لا يعني أننا لا نقول بعدم وجوده،وإنما نؤمن بوجوده وأنه غيب (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). ولأننا نؤمن بوجوده فإن عبادتنا له تعني أن نقيم صلة به، وهو يعلمنا ذلك )…أقرب إليه من حبل الوريد(، )…وهو معكم أين ما كنتم…( ) …ادعوني أستجب لكم… (، (من تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن جاءني مشيا جئته هرولة، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير من ملئه) ، هنا يعلمنا الحق أن نتواصل معه بالدعاء، وبالرجاء. والصلاة هي دعاء، والصوم هو دعاء، والحج هو دعاء، فعلاقة الإنسان بربه هي دعاء، والدعاء كما يقال مخ العبادة. لذلك، انصرفت أذهان الناس في أغلب الأحيان أن يحصروا معنى العبادة في الذكر، وفي الصلاة، وفي الدعاء، ونسوا أن العبادة أيضا هي في العمل، وفي التأمل، وفي التفكر، وفي البحث، وفي الخدمة، وفي التعامل، وفي العطاء وفي الأخذ، في كل مناحي الحياة الأرضية (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، ولأنك تراعي الله في عملك فهذا عبادة، وأصبح تعاملك مع الله في كل شيء هو عبادة. فعلاقة الإنسان بالله هي علاقة عبودية. عبد الله، تشريف وإكبار للإنسان، لأن معنى عبوديته لله هي تحرره من عبوديته لطاغوت، أو إنسان، أو شيء، أو كائن أيا كان. عبودية الإنسان لله هي حريته في أن يفكر بما أعطاه الله من نعمة التفكر، وأن يعمل على هذه الأرض ويبدع بما أعطاه الله من قدرة الإبداع، والعمل، والتغيير، والاستحداث، والابتكار، والخلق أيضا بصورة ما. فعبودية الإنسان لله هي إكبار للإنسان، هي معنى خلافته على هذه الأرض (…إني جاعل في الأرض خليفة…). فالإنسان بخلافته أن يغير في هذه الأرض، هذه علاقة الإنسان بالله. فما هي علاقة الله بالإنسان؟ هذا هو السؤال الذي ليس له جواب، لا نستطيع أن نجيب عليه إجابة كما أجبنا عن علاقة الإنسان بالله، وإن كان الله قد أجاب عن هذا السؤال، لنتأمل فيما أخبرنا به ونتدبره (كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني). الذين تأملوا في هذا الحديث، أخذوه بمعنى مباشر، وقالوا أن الخلق قد حدث نتيجة أن الله عنده صفة الحب، وأنه قد خلق الكون من محبته أن يعرف، وقد ألقت هذه الإجابة شكلا من الأشكال على صورة ذهنية لله، أنه وجود يحب أن يعرف، وهذا يتناقض مع إكبارنا لله، وتجريده من أي صورة أو شكل (…ليس كمثله شيء…). ولذلك، وقع الكثيرون في حيرة، وحين أخبروا (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى…)، (.. فله الأسماء الحسنى فادعوه بها…)، وقعوا أيضا في حيرة فقد جسدوا هذه الأسماء، كما جسدوا صفة أنه يحب أن يعرف، وصنعوا صورة ذهنية لله من خلال هذه الصفات والأسماء. وهنا، نستطيع أن نقول أن هذه الكلمات التي خاطبنا بها الله يجب أن نتقبلها بمعان مجردة، فحب الله أن يعرف أمر مجرد، لا يجب أن نقيسه بمقاييسنا الأرضية، في أن يحب الإنسان أن يشار إليه، أو أن يكرم، أو أن يقال عنه أنه فاعل هذا الأمر، أو أنه مبتكر هذا الأمر، أو أنه مخترع هذه الآلة، أو أنه مطور هذا البناء، أو أنه من زرع هذه الأرض، أو أنه من ساس هذه الأمة، أو أنه من قاد هذا الشعب ـ فهذا ليس كذلك، إنه أكبر من ذلك، فحب الله لنا ليس له صورة، وحب الله أن يعرف أكبر من أي شكل أو صورة. إنها كلمات محملة بمعان، أن وجودنا وخلقنا له حكمة، وأن هذه الحكمة أكبر من أن ندركها، أن هذه الحكمة لا نستطيع أن ندركها، وأن عبادتنا لله هي الأمر الوحيد الذي نستطيع أن ندركه، وأن قضيتنا هي علاقتنا نحن بالله، أما علاقة الله بنا فهذا أمر أكبر من أن ندركه. فإذا قلنا أنه راحمنا، وأن علاقته بنا هي علاقة رحمة، فهذا اسم من أسمائه، نبدأ به كل آيات الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم)، ورحمته أيضا أكبر من أن نقيسها أو أن نحدها أو أن نضعها في صورة. وإذا قلنا أنه يحبنا، وأن الله محبة، محبته لنا أكبر من أن نقيسها أو أن نضعها في صورة، رحمته وسعت كل شيء وأكبر من كل شيء، ومحبته وسعت كل شيء وأكبر من كل شيء، رحمة مجردة ومحبة مجردة. علاقتنا به أننا نطلب رحمته، ونطلب محبته، ونطلب نوره، ونطلب توفيقه، ونطلب هدايته، ونطلب نعمته، ونطلب عطاءه، ونطلب مغفرته، إننا نعرف علاقتنا به، ولكننا لا نعرف علاقته بنا، معرفتنا لعلاقته بنا هي علاقة مجردة، معان مجردة، كلها نور، وكلها رحمة، وكلها محبة مجردة…”

تعليق:

حديث عن علاقة الإنسان بالله وعلاقة الله بالإنسان. فعلاقة الإنسان بالله هي علاقة عبودية أما علاقة الله بالإنسان فهي علاقة مجردة كلها نور، وكلها رحمة، وكلها محبة لايمكن أن تصفها كلمات.

مفاهيم دالة :

٢٤٣ - الإنسان يوم يشهد ليلة القدر يهيئ نفسه لنفحات الله وبذلك تكون خير من كل حياة الإنسان

تاريخ الحديث: ٢٠١٦/٧/١

”… إذا كنا نرمز للهاء في الآية (إنا أنزلناه في ليلة القدر) بمعنى القرآن، أو بمعنى التنزيل من الأعلى إلى الأدنى، أو كل ما هو خير للإنسان يتلقاه من الغيب إلى الشهادة، فكل هذا يعني أن الإنسان يوم يشهد هذه الليلة يهيئ نفسه لنفحات الله ورحماته، وبذلك تكون خير من ألف شهر، خير من كل حياة الإنسان. في هذه اللحظة يتغيرالإنسان تغييرا كليا. إن كل عمل الإنسان ومجاهدة الإنسان أن يكون أهلا لهذه اللحظة. وهذا أيضا نفهمه في حديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، حتى أنت يا رسول الله، حتى أنا ما لم يتغمدني الله برحمته). فليلة القدر هي رحمة الله يوم تتغمد الإنسان وتغمر الإنسان. تنزل الملائكة نجده في الآية: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)، كما نجده أيضا في الآية: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). إن الملائكة تتنزل كل ليلة ولكن هل الإنسان أهل لأن يكون متلقيا لها. إن ليلة التلقي مرتبطة بالإنسان. فالله وملائكته أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ومعه أينما كان، ولكن هل الإنسان مع الله، أم أنه بعيد عنه بغفلته وبانشغاله بذاته وبوجوده وبمحيطه وبحياته الأرضية. إن الإنسان مخبر بأن يكون مهيئا وجوده لصلة بربه في كل العبادات. فكل العبادات أساسها أن يعطي الإنسان فرصة لتلقي نفحات الله وليكون محاولا أن يعد نفسه لهذه الصلة، وهذه الصلة أساسها إيمان الإنسان وهو في حجاب من ظلام. هذه قضية الإنسان على هذه الأرض، أنه يعيش وهو محجوب عن الحقيقة بتواجده في هذه الذات البشرية، بل أن وجوده في هذه الذات البشرية هو مطلوب حتى يستطيع ـ بقانون الحياة ـ أن يكسب الحياة الأبدية. مطلوب وأنت تعيش في هذا الحجاب أن ترجع إلى داخلك وأن تسأل نفسك، هل أنت مخلوق بلا هدف؟ هل أنت لست في حاجة إلى رب تتجه إليه؟ أم أنك في حاجة لأن تطلب صلة بربك؟ ولأن تقوم فيما تجيب به عليك نفسك وقلبك، لن يجيبك أحد، ولن يهديك أحد.وها نحن نتعلم ذلك في الآية الكريمة: (إنك لا تهدي من أحببت ولٰكن الله يهدي من يشاء)، وكيف يهدي الله الإنسان؟ إنه يهديه من داخله، (… من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). فإذا نظرنا إلى واقعنا، هل الإنسان يضل من خارجه؟ هل يؤخذ إلى الضلال من خارجه؟ أم أن داخله هو الذي يدفعه دفعا إلى ذلك؟ وكذلك الهداية، هل يستطيع إنسان أن يدفع إنسانا إلى الهداية بقوته، بدفعه دفعا إلى أن يهتدي؟ أم أن الهداية تجيئ من داخل الإنسان؟ لذلك، فواجب على الإنسان أن يتجه إلى داخله وأن يسأل نفسه، ماذا يريد، وماذا يطلب؟ لذلك، فإننا نخبر بهذه الحقائق في آيات الله، حتى تلفت نظرنا وتوجهنا أن نتجه إلى داخلنا، وهذا مطلوب أن يحدث ونحن على هذه الأرض وفي هذا الحجاب، فهذا التدريب المهم وهو أن يتواصل الإنسان مع داخله، وأن يصل أن يطلب ربه، وأن يدعو ربه، وأن يهيئ نفسه لربه ـ كل ذلك مطلوب أن يحدث ونحن في حجاب. “سلام هي حتى مطلع الفجر تعني أنك عندك فرصة لتهيئة نفسك حتى تخرج من هذا الحجاب. فإذا خرجت من هذا الحجاب ولم تصل إلى أن تعد نفسك لتلقي نفحات الله، فقد خسرت هذه الكرة، وهذه قيمة هذه الحياة. لذلك، نجد آيات كثيرة تعظم من قيمة وجودنا على هذه الأرض، (..أتتك آياتنا فنسيتها وكذٰلك اليوم تنسىٰ) (… يومئذ يتذكر الإنسان وأنىٰ له الذكرىٰ، يقول يا ليتني قدمت لحياتي). إن هذه الحياة قيمة كبيرة، فلنحاول أن نستفيد من قيامنا عليها، بأن نتجه دائما إلى قلوبنا، وأن نسأل الله دائما أن نكون في صلة معه، وأن يجعلنا ويساعدنا برحمته أن نكون أهلا لنفحاته…”

تعليق:

تأمل في معاني ليلة القدر وتعرض الإنسان لرحمة الله التي تساعده على أن يهتدي إلى أن يستفيد من وجوده في هذه الأرض.

مفاهيم دالة :

٢٤٤ - معاناة أو سعادة الإنسان تتطلب من الإنسان أن يعلم أن الهدف في النهاية، هو أن يكسب في الله، فإذا تدرب على ذلك أصبحت صلته بالله فوق أن يدعوه بلسانه أو أن يذكره بقلبه أو أن يفكر فيه بعقله

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/١/٦

”… إن الإنسان هو الكائن الذي ما ظهر الله في شيء مثل ظهوره فيه. فالإنسان هو الكائن العاقل الذي يستطيع أن يتعلم مما يدور حوله، وهو الكائن الذي يستطيع أن يغير ما هو حوله، فهو يزرع ويبني ويعمر ويصنع ويبحث عن معنى الحياة وعن قوانين هذه الأرض التي يعيش عليها (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ..)، وهو الذي يستطيع أن يختار من بين بدائل كثيرة يجدها، (فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) وهنا تعبير عن الاختيار وعن البدائل. وضرب المثل ببديلين لا يعني أن الأمر ينحصر في ذلك، إنما تزكية النفس لها بدائل كثيرة. (وقد خاب من دساها) لها بدائل كثيرة أيضا. بدائل ووسائل أيضا كثيرة لكلتا الحالتين، ومن ثم فإن الإنسان يستطيع أن يولد بدائل كثيرة، ويستطيع أن يختار من بين هذه البدائل أيضا. وكل بديل يختاره سوف يؤدي إلى نتيجة، والنتيجة ستؤدي إلى معاناة من نوع ما. وما نقصد بالمعاناة هنا ليس الجانب المتعب فقط، وإنما أيضا الموقع والحال الذي يرتاح فيه. والإنسان في أي من الحالين عليه أن يدرك أن علاقته يجب أن تكون وثيقة بخالقه؛ لأنه إذا ضعفت هذه الصلة فهو سوف يخلط الأمور، فإذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وهذا ما نقصده أن المعاناة أو الابتلاء ليس فقط في أن يقدر عليه رزقه، وإنما أكرمه ونعمه هو ابتلاء أيضا، بل أن ظنه أنه قد آمن هو ابتلاء أيضا؛ لأنه مختبر في هذه العقيدة التي اعتقدها (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون). لذلك فإن الحال الذي يقوم فيه الإنسان من المعاناة أو الابتلاء ـ أيا كان المسمى ـ يتطلب من الإنسان أن يعلم أن الهدف منه في النهاية، هو أن يكسب في الله، وأن القضية هي أن يكون في علاقة دائمة مع الله. فإذا تدرب على ذلك أصبحت صلته بالله فوق أن يدعوه بلسانه أو أن يذكره بقلبه أو أن يفكر فيه بعقله؛ لأن عقله دائما مشغول بالله؛ ولأن قلبه دائما مشغول بالله؛ ولأن حديثه دائما هو حديث في الله وقد يكون هذا معنى من معاني “لو غاب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين…”

تعليق:

تأمل في المقولة الصوفية : “لو غاب عني رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين…”

مفاهيم دالة :

٢٤٥ - كل إنسان مسئول عن قراره، يتواصى بما يعتقد أنه الأفضل ويقبل ما يتواصى به الآخرون، فربما ينبهه ذلك يراجع ما كان يراه

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/٣/١٠

”… حديث الحق يعلمكم ويرشدكم، ويحفز فيكم معنى الإنسان، ويدعوكم إلى أن تذكروا الله بقلوبكم وبجوارحكم وفي كل حال من أحوالكم، وأن تتفكروا في آلاء الله في أرضكم وسمائكم، وتصلوا إلى نتيجة لتفكركم وتدبركم وذكركم، نتيجة ترضونها وتقبلونها، أن حياتكم ليست هباء، وأن خلقكم ليس باطلا. خلفكم الله على أرضكم، وجعلكم مسئولين (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، وعلمكم أن ما تجنونه وما تحصلون عليه يعتمد على نياتكم (نية المرء خير من عمله)، وأن ما ستحصلون عليه من كسب يتناسب مع أعمالكم التي سبقتها نياتكم، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) والذي يجعل عملكم خيرا أو شرا هي نياتكم وأنتم تقومون بهذا العمل، ومن هنا تصبح مسئولية الإنسان أمرا أساسيا في وجود الإنسان وعمله، ولا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن هذه المسئولية، فيقول أني قيل لي ذلك. وكذلك علمتنا الآيات هذا المعنى (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا..)، ويوم يتبرأ الشيطان من الذين اتبعوه فيقول لهم (…ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم…). حتى في قراءتك لآيات الله، أنت مسئول عن الفهم الذي تصل إليه، ولا تستطيع أن تحاجي بأن الله قال كذا وكذا؛ لأن فهمك هو الذي يؤدي إلى نيتك وهو الذي يؤدي إلى عملك. فإذا كان عملك يؤدي إلى إيذاء غيرك بغير حق، فإنك الذي تتحمل هذه المسئولية (…من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا…). لذلك، عافى الله الإنسان من أن يحدد أمورا تخص الآخرين وجعل هذا الأمر مسئولية المجتمع، فالقصاص مسئولية ولي الأمر أو الحاكم أو القضاء. فلا يستطيع أحد أن يقرر بمفرده هذا، فإذا اتخذ إنسان قرارا في حق الآخرين فعليه أن يتحمل تبعاته. فالذين يستسهلون أن يقتلوا وأن يدمروا وأن يعتدوا بآراء منفردة، يتحملون هذه المسئولية، وفي كل أمر كذلك. لذلك، فإن الإنسان عليه نفسه أولا، (…فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، (…عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم…). كل إنسان مسئول عن قراره، ومسئول عن حياته، ومسئول عن تصرفاته. لا مانع من أن يعبر كل إنسان عما يعتقد أنه الأفضل، ولكن بمعنى التواصي وبمعنى التراحم وبمعنى أنه بذلك يؤدي شهادة، ويقبل شهادة الآخرين، فربما يقولون له شيئا عن سلوكه، وعن حاله، وعن قيامه، فلا يضع نفسه في موضع الأعلى الذي يفرض الآراء ويسن القوانين، بدون أن يكون له أي حجية في ذلك إلا فهمه الذي قد يكون قاصرا، فليرحم نفسه من أن يضعها في هذا الموقف. ولذلك، كان معنى التواضع هو أساس المعاملة، (من تواضع لله رفعه) هكذا نتعلم كيف يكون الإنسان صادقا مع نفسه، هاديا نفسه، مستعينا بالله على نفسه، ذاكرا، متفكرا، متدبرا، مقدرا وجوده، مقدرا قيامه. هكذا يكون الإنسان في معنى عبودية لله؛ لأنه يتعلم قوانين الحياة، ويتعلم أن من قوانين الحياة الاختلاف والتباين في القدرة، وفي الصفة، وفي العلم، وفي الذكر، وفي التفكر، وفي التدبر، وفي الرؤية، وفي الهدف، وفي الأسلوب، وفي السلوك، في كل شيء، كل له طريقه، وكل له فهمه، وكل له قدرته، فليحترم كل الآخر في كل أمر من أمور حياته. والاحترام لا يعني القبول بمفهوم الآخر، وإنما يعني أنك تعرف أن هذه قدرته وأن هذا حاله، ربما أنت ترفض ما وصل إليه من فهم لآيات بطريقة ما، إنما هذا لا يعني أنك ترفض هذا الحق الذي أعطاه الله له كإنسان، إنما ترفض يوم يخرج هذا عن نطاق وجوده كفرد إلى أنه يريد أن يفرضه على الآخرين بالقوة. فهنا الرفض ليس لمفهوم إنسان ـ فهذا حقه ـ وإنما لأنه خرج من حدود نفسه إلى محاولة الاعتداء على حق الآخر. ولذلك، كان الإسلام يدعو إلى الخصوصية لكل إنسان، فلا يعتدي إنسان على خصوصية إنسان (…ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا…)، فالإنسان في حدود وجوده، وفي حدود نفسه، وفي حدود بيته، لا يصح لإنسان أن يتجسس عليه ليعرف ماذا يفعل، فهذا ليس من حقه. إنما يبدأ حق المجتمع يوم يخرج الإنسان من ذاته ومن بيته إلى المجتمع، فهنا عليه أن يلتزم بحدوده ولا يعتدي على الآخرين. هذه الأساسيات التي قد تبدو واضحة لكل إنسان، إلا أن الكثيرين لا يحترمونها، ويريدون أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين، بمفهومهم، وبقدراتهم، وبقوتهم…”

تعليق:

حديث عن خصوصية الإنسان ومسئوليته ومسئولية المجتمع، وتعدد الآراء واحترام الاختلاف.

مفاهيم دالة :

٢٤٦ - الإنسان بوجوده الأرضي يجمع بين الظاهر والباطن، وبين الغيب والشهادة. وهذا ما جاءت به الأديان لتعلم الإنسان كيف يتعامل مع ما هو مشهود له، وكيف يتعامل مع ما هو غيب عليه

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/٤/٧

”… أوجدنا الله على أرضنا، وأودع في قلوبنا محبته ودعوته، وأصبحنا بوجودنا قائمين في الحياة بشقيها، شقها الظاهر لنا، وشقها الباطن علينا. ظاهر وباطن، شهادة وغيب، تثاقل إلى أرض وتلبية لدعوة من السماء. وصرنا بوجودنا نجمع بين الأمرين، وبين الحالين، وبين الحضرتين. علمنا ديننا كيف نتعامل مع ما هو مشهود لنا، وكيف نتعامل مع ما هو غيب علينا. علمنا ديننا كيف نحيا على أرضنا، ونحيا بعد مفارقتنا لأجسادنا. علمنا معنى الحياة الذي هو سابق لوجودنا، والذي هو حاضر في وجودنا، والذي هو قادم في آخرتنا (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم…). ألست بخالقكم؟ ألست بموجدكم؟ فعلموا وأقروا، فأشهدهم على ذلك وقال لهم عليكم أن تتذكروا ذلك، وألا تقولوا (…إنا كنا عن هذا غافلين)، فالعلم موجود فيكم، في فطرتكم وفي أعماق وجودكم. فهكذا كان وجود الإنسان، كما يحمل رسالته على هذه الأرض، بأن جعله الله يحب ما عليها ليعمل وليبحث وليغير، كما أوجد في أعماقه ما يجعله يتجه إلى ربه، ويذكره، ويعرج إليه، ويقصد وجهه، ويسبح اسمه، فكان الإنسان بذلك يحمل سر حياته وبقائه، وسر موته وفنائه. إنا نذكر أنفسنا دائما بأن الله (…قآئم على كل نفس بما كسبت…)، وقيومية الله على الإنسان تعني أن الإنسان بهذه القيومية مسئول، وهو مرجعية وجوده، فهو خليفة الله على هذه الأرض، وهو مسئول عنها فيما يقدر عليه (… كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته …). لذلك، نذكر أنفسنا دائما، بأن نفتش عن الحق في أعماقنا، وننقب عنه في وجودنا، ونتجه إليه في نفوسنا، (…وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، الحق هو ما ترى أنت أنه الحق، والخير هو ما ترى أنت أنه الخير، والباطل ما ترى أنت أنه الباطل، والشر ما ترى أنت أنه الشر. فالحق المطلق لا تستطيع أن تحدده، والباطل المطلق لا تستطيع أن تحدده، والخير المطلق لا تستطيع أن تحدده، والشر المطلق لا تستطيع أن تحدده. فماذا تفعل يا إنسان؟ إنك تريد أن تكون في طريق الحق ولا تكون في طريق الباطل، إنك تريد أن تكون في طريق الخير ولا تكون في طريق الشر. فكيف تفرق بين هذا وذاك؟ التفرقة لك، والاعتقاد لك، والخيار لك (…فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…)، لأن المشيئة لك فيما هو عليك أن تفعله وأن تقوم به. إنك لا تستطيع أن تقول أنني سوف أفعل ما يريد الله، لأنك لا تعلم ما يريد الله، (…تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب). الله يعلم ما في نفسك، (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ، يعلم أنك رأيت هذا حقا فاتبعته، ويعلم أنك رأيت هذا باطلا فاجتنبته، ويعلم أنك رأيت هذا حقا فاجتنبته، ويعلم أنك رأيت هذا باطلا فاتبعته (…وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). كل هذه الآيات تحمل الإنسان مسئوليته ، والخير والشر ـ كما أشرنا ـ هو ما عرفه الإنسان. هكذا علمنا ديننا كيف نتعامل مع ما هو مشهود لنا، مع ما نستطيع أن نحكم عليه، ما نستطيع أن نكون رأيا فيه. وفي نفس الوقت، علمنا كيف نتعامل مع ما لا نستطيع أن نحيط به، ومع ما لا نستطيع أن نكون رأيا فيه، ومع ما لا نستطيع أن نفعله على هذه الأرض حتى وإن كنا قد وجدنا أننا نريد أن نغيره ولكننا وجدنا أيضا أننا لا نستطيع أن نغيره، وكنا صادقين في هذا. ماذا نفعل إن كان الأمر كذلك؟ علمنا أن نتجه إليه، وأن نتوكل عليه، وأن نوكل ظهورنا إليه، وأن نسلم وجوهنا إليه، وألا يكون لنا ملجأ إلا إليه، لا نسأل إلاه، ولا نتجه إلا إلى وجهه. علمنا أن نقيم معه صلة دائمة نتذكرها في كل يوم من أيامنا، في كل صلاة من صلواتنا، بل في كل فعل من أفعالنا، بل في كل حركة من حركاتنا، بل في كل نظرة من نظراتنا، في كل خطوة نخطوها، في كل حال نقوم فيه يمكن أن نكون داعين له. ودعوتنا هنا، هي أن يكون حاضرا معنا، شاهدا علينا، ويكون ذلك بأن نراعي ما نراه حقا في كل أفعالنا وفي كل أقوالنا، وإذا غفلنا عن ذلك نستغفره، نستغفره في كل وقت وحين. هكذا نتعلم كيف نتعامل مع الغيب. لذلك، فإن كل العبادات التي أمرنا بها كشفا لطريق نجاتنا، كانت لإقامة صلة بربنا، ولإقامة صلة برسولنا. فنحن ونحن نصلي ندعو الله أن نكون به موصولين، ونتجه إلى قبلتنا التي هي سفينتنا، التي هي رحمة الله لنا، التي هي رسول الله لنا، قوة أوجدها الله على أرضنا ورمز لها ببيته. وما كان بيته حجارة أو حديدا، إنما بيته هو قوة روحية قائمة على أرضنا، رمز لها بهذا البيت الذي وضع ببكة مباركا. فنحن جميعا ونحن نتجه إلى هذا البيت، نعلم أننا لا نتجه إلى حجارة وإنما نتجه إلى معنى، الكل يدرك ذلك بفطرته. وهذا المعنى، هو ما يرسل الله دائما إلى هذه الأرض، ما كان رسل الله إلا هذا المعنى، وما كان أولياء الله إلا هذا المعنى، وما كان عباد الله الصالحين إلا هذا المعنى، فكيف نتصور أننا نتجه إلى حجارة أو حديد؟ وكيف يتصور أحدنا أن هذه المعاني التي أوجدها الله على أرضنا يمكن أن تغيب ويمكن أن تزول؟ كيف يقول البعض أن رسول الله قد مات، بمعنى انتفاء صلته بهذه الأرض؟ إنه قد يكون قد غادر بجسده ولكنه موجود بطاقة الرحمة التي أودعها الله فيه (زويت الأرض مسجدا وطهورا)، (…وجعلنا له نورا يمشي به في الناس…). الذين يفرقون بين الله ورسوله بأن يقولوا أننا نتجه إلى الله ولا نتجه إلى رسوله، أو الذين يقولون أننا لا نتجه إلى الله إلا من خلال رسوله، فكلاهما لا يدرك الأمر بحق. إنك مطالب أن تتجه إلى الله كغيب، ومطالب أن تتجه إلى رسول الله كشهادة وكمعنى دائم تعلم أنه قوة موجودة على هذه الأرض. لذلك كانت الصلاة تمثل ذلك، فهي تجمع بين اتجاهك إلى الله، فأنت تصلي لله، وتدعو الله، واتجاهك في صلاتك إلى الكعبة رمز إلى معنى رسول الله. لذلك، قال الصوفية: (ندعو إلى الحضرتين بالحضرتين). وتعلموا أن علاقتهم برسول الله هي علاقة رحمة ومحبة وقوة يأخذونها ويستعينون بها، لا تتعارض مع اتجاههم إلى الله وعلاقتهم بمحبة مع الله وبطلب قوة من الله، فالله بمعناه المطلق وراء كل شيء. إننا نتعلم جميعا أننا ونحن نتخذ أسبابا لنحقق هدفا، أن تحقيق هذا الهدف لا يكون إلا بتوفيق الله، ولا يمنعنا ذلك من أن نتخذ هذا السبب، ولا يمنعنا اتخاذ هذا السبب من أن نلجأ إلى الله، إنهما أمران متلازمان، الغيب والشهادة، نلجأ إليهما وندعو بهما ونتعامل معهما…”

تعليق:

الإنسان بوجوده الأرضي يجمع بين الظاهر والباطن، وبين الغيب والشهادة. وهذا ما جاءت به الأديان لتعلم الإنسان كيف يتعامل مع ما هو مشهود له، وكيف يتعامل مع ما هو غيب عليه.

مفاهيم دالة :

٢٤٧ - سعينا يشمل كل عمل، وكل فعل، وكل معاملة، لو تذكر الإنسان في كل معاملة وفي كل عمل أن يكون باذلا كل جهده مدركا انما يفعله له صلة بحياته الأخروية فإنه يكون قائما في معنى العطاء والتقوى

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/٦/١٦

”… ندرك أن سعينا على هذه الأرض في اتجاهات مختلفة )والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى(. فكيف يكون السعي ذكرا لله، وكسبا في الله، وعبودية لله؟ )فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى( . السعي يشمل كل عمل، وكل فعل، وكل معاملة على هذه الأرض. لو تذكر الإنسان في كل معاملة وفي كل عمل أن يكون باذلا كل جهده، معطيا كل ما يستطيع؛ لأنه يرى أن ذلك واجبه، أن يعطي بإخلاص، وأن يكون متعاملا مع الله، فيكون بذلك قائما في معنى: (..من أعطى واتقى…)، وهو يدرك تماما أن كل ما يفعله على هذه الأرض له صلة بحياته الروحية وبحياته الأخروية. يصدق أن التعامل مع الله، وهذا معنى: (..صدق بالحسنى)، صدق بالحياة، صدق ببقاء الحياة، صدق باستمرار حياته وباستمرار وجوده، فهو لا ينظر إلى كسب عاجل وإلى دنيا زائلة، إنما هو يتعامل مع الله. وطريق الله هو اليسرى، طريق الكسب في الله هو اليسرى، تيسير هذا الطريق للإنسان هو اليسرى، تمكين الإنسان من أن يكون كذلك هو اليسرى. ولنتعلم كيف يكون حال الإنسان إذا كان في الصورة المضادة، تحدثنا الآيات: (وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى)، بخل عكس العطاء، واستغنى عكس التقوى، من لا يرى أنه يتعامل مع الله فقد استغنى، وأما من امتنع عن العطاء وانتظر الجزاء قبل أن يعطي فقد بخل. إذا نظرنا في الحياة، وجدنا هذين النموذجين من إنسان يعطي متعاملا مع الله، ومن إنسان يبخل متعاملا مع الناس، والآيات توضح لنا النموذجين لنختار أيهما نحب أن نكون فيه. قد يتساءل إنسان، وهل يحب أنسان أن يكون فيمن (…بخل واستغنى، وكذب بالحسنى)؟ نقول نعم، هناك من سيختار هذا الطريق؛ لأننا نجد فعلا من اختار هذا الطريق، وهو لا يفكر إن كان قد بخل واستغنى أو لم يفعل ذلك، إن حاله هو كذلك وإن فعله هو ذلك، إنه لن ينتظر حتى يقرأ هذه الآيات فيختار منها هذا أو ذاك؛ لأنه لن يقرأها أصلا. لذلك، فالآيات تصف أحوال الناس لمن يقرؤها، فيتعلم من قراءتها. لينظر الإنسان إلى داخله، وليسأل نفسه: هل أنا في هذا الحال، أو في ذاك الحال؟ فالإنسان الذي يطلب المعرفة لا يعني أنه في كمال، وإنما هو في جهاد واجتهاد، وهذه الآيات تكشف له الطريق، تكشف له اليسرى، وتكشف له العسرى. والعسرى هنا لا تعني عسرا في الحياة الدنيا، وإنما تعني طريق فقد الحياة، سوف يكون ميسرا له أن يفقد حياته، كيف يكون ذلك؛ بأنه يختار دائما ما يخسره في علاقته بالله. هكذا نتأمل في آيات الله لنحولها إلى سلوك في حياتنا، تتحول هذه الآيات إلى نور يهدينا الطريق القويم والصراط المستقيم، تعيننا أن نراجع أنفسنا، وأن نعكس البصر إلى داخلنا، لنرى ما نحن عليه، ولنسأل أنفسنا: من نحن، وما هو حالنا، وما هي صفاتنا؟ آيات كثيرة تتحدث عن الإنسان في عمائه، وتتحدث عن الإنسان في يقظته (إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد). وتتحدث أيضا عن عطاء الله للإنسان الذي حمله أمانة الحياة، وجعله خليفته على الأرض، (..إني جاعل في الأرض خليفة…)، (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) كان ظلوما جهولا قبل أن يحمل الأمانة، وبعد أن حمل الأمانة أصبحت عنده المكنة التي تجعله عادلا منيرا. إن الأمانة عطاء دائم (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا…)، فما هو موجود في فطرة الإنسان هو بذرة هذه الأمانة التي تنمو في الإنسان بتعرضه لنفحات الله، والتي تموت في الإنسان ببعده عن ذكر الله، (…ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)…

تعليق:

تأمل في الآية (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى…)-

مفاهيم دالة :

٢٤٨ - إخراج الإنسان الحي من وسطه المظلم هو إخراج للحي من الميت وإخراج ما تبقـى من ظلام في الوسط الحي هو إخراج الميت من الحي

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/٩/٢٢

”… كل رسالة سماوية، وكل رسول جاء بدعوة حقية، جاء في وسط إنساني فيه كل المتناقضات من خير وشر، ومن نور وظلام. وحين يدعو داعي الحق دعوته فأهل الباطل والظلام يرفضون هذه الدعوة، ويكونون وسطا مظلما يحيط بالداعي ومن تابعه من أهل الحق، فإذا كان المجتمع أغلبه ظلام، فإنه يصبح قوة ضاغطة على داعي الحق ومن اتبعه، ويصبح أهل الحق هم معنى الحي، ويصبح أهل الظلام هم معنى الميت. هذا الحي يريد أن ينتشر، ويريد أن يبقى، ولا مجال له إلا أن يخرج من هذا الميت، فهنا يكون معنى (…يخرج الحي من الميت…)، وتكون الهجرة هي تعبير عن خروج الحي من الميت، ويصبح هذا هو القانون الطبيعي لاستمرار الحياة، والذي تسانده قوى الغيب في حركته، فكانت هجرة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تعبيرا عن هذا الحال، وكانت مساندة الغيب في هذه الهجرة هو تعبير عن مساندة قانون الحياة لكل حي يريد أن يخرج من وسطه الميت، سواء كان ذلك على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع. فعلى مستوى الفرد، فإن قلب الإنسان بما فيه من حياة، وبما فيه من (.. مضغة لو صلحت لصلح البدن كله ..) وما فيه من بذرة حياة أودعها الله في الإنسان، هو معنى الحي في الإنسان، وجسد الإنسان الذي يحيط بهذه البذرة هو الوسط الميت في الإنسان، لذلك كان اللجوء إلى الله، ودعاء الله، هو هجرة للمعنى الحي في الإنسان إلى الله، وإلى من يعينه على ظلام نفسه. فكل دعاء هو هجرة لقلب الإنسان من وسطه المظلم إلى الحي القيوم الذي يحييه ليرجعه مرة أخرى إلى هذا الوسط، فيحيا هذا الوسط به. وهذا ما يمثله رجوع رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من المدينة إلى مكة فاتحا. هذا بعد نتدبره ونتأمله من الهجرة. الأمر الآخر الذي نتدبره ونتأمله ونقرؤه، هو أن نتفهم قانون الحياة في العلاقة بين الخير والشر، وبين النور والظلام. هذه الأرض يحكمها قانون أن من يعلم أسباب هذه الحياة وأدواتها من علم ومعرفة وقوة، يستطيع أن تكون له الغلبة في سيادتها، وفي ريادتها، وفي قيادتها. ومن أسباب هذه القوة أيضا، هو تجمع الناس على إنسان يقودهم ويرشدهم، وأن تزايد عدد من ينتمون لأي من المعسكرين هو عامل قوي في سيادة هذه الأرض. فإذا ظهرت دعوة في مجتمع غالبيته مظلمة، وقليل منه فيه نور، فإن الغلبة تكون للظلام، الغلبة الظاهرية وهذا ما حدث في كل الرسالات، ومع كل الرسل. فحين ننظر اليوم إلى غلبة الباطل أيضا في مجتمعنا وفي مجتمعات غيرنا، فإننا ندرك أن هذا هو القانون، وأن المطلوب من أهل الحق، أو من أي مجموعة ترى في نفسها ذلك، عليها أن تدعو بما هو أحسن حتى يكون لها من يساندها، فإذا لم تصل إلى الحد الذي يمكنها من الغلبة، فإنها تواصل الدعوة، وتكتفي بمن استجاب إليها، وهذا حدث في تاريخ البشرية. ويحدث أيضا في كل وقت. ونحن حين ننظر في تاريخ مجتمعنا، سوف نجد أناسا كثيرين كانت لهم دعوة صادقة، وعرفوا علما ربانيا، وتحدثوا بحديث حقي، ولكن من قرأوا لهم أو اجتمعوا عليهم قليلون، ولكن بقى ذكرهم، ونقرأ كتبهم، ونسمع عن سيرتهم، وفي هذا بقاء لهم. ومن هنا فإن هذه القوانين الأرضية تعمل بهذا الشكل، إلا في لحظات فإن هذه القوانين يقابلها قانون آخر تتدخل فيه الإرادة الغيبية، وهي لحظات فارقة؛ لأن هذه اللحظات يكون فيها الغلبة لأي معسكر غلبة نهائية لموقف سوف يقضي على بذرة الحق في الأرض، ليس قضاء نهائيا، ولكن الإرادة الإلهية تريد أن تبقى هذه البذرة حية في ذلك الوقت، فهنا تتدخل الإرادة الغيبية ـ كما نقرأ ذلك من الواقع ومن التاريخ. تتدخل الإرادة الغيبية في لحظات لتأخذ بيد داعي الحق، وتبقيه مكملا لمسيرته. فنجد ذلك في الهجرة، في خروج الرسول من بيته ولا يراه أحد، وفي غار لا يصل إليه أحد، وفي متابعة لا يلحق به أحد، بصورة تدخلت فيها الإرادة الغيبية، وهي لحظات فارقة؛ لأنه لو تحقق ما أراد أهل الظلام، ونالوا من الذات المحمدية، فإن هذه الدعوة ما كانت لتستمر. والإرادة الغيبية، أن تستمر هذه الدعوة في ذلك الوقت، وهذا قانون إلهي. فحين قال القوم (إشتدي يا أزمة تنفرجي) ، (وضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج) ، نجد ذلك في أحداث كثيرة في حياتنا، وكل إنسان مر أو سيمر بلحظات يحدث له مثل ذلك، فكم قابلنا من أمور كنا نظن أننا لن نخرج منها، ولكن خرجنا، سواء بتسبيب من الله بأسباب، أو بصورة فيها إرادة غيبية. ولذلك فقد تعلمنا ألا نيأس من روح الله، ومن رحمة الله، ومن نور الله، وأن نكون دائما داعين طامعين في رحمة الله وفي توفيق الله، وهذا درس آخر نتعلمه من هذه الهجرة…”

تعليق:

يربط هذا الحديث بين حدث الهجرة وآية يخرج الحي من الميت. كذلك تجلت في هذا الحدث قوانين حياتية تحكم العلاقة بين معسكري الحق والباطل مثل إنتصار القوة المادية والعددية إلا في لحظات فارقة تتدخل الإرادة فيها الغيبية.

مفاهيم دالة :

٢٤٩ - خلق الله نفس كل إنسان بسعة لها إمكاناتها، تأخذ من الحقيقة بقدر سعتها، وتبذل فيما تفعل بقدر إمكاناتها، فلا يستطيع إنسان أن يستوعب أكثر من سعته، ولا يستطيع إنسان أن يبذل أكبر من طاقته

تاريخ الحديث: ٢٠١٧/١٢/١٥

”… (… لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت …)، قانون إلهي، يوضح لنا خلق الإنسان وما يملكه من طاقات وإمكانات. كل نفس لها وسعها ولها إمكاناتها، تأخذ من الحقيقة بقدر سعتها، وتبذل فيما تفعل بقدر إمكاناتها. فلا يستطيع إنسان أن يستوعب أكثر من سعته، ولا يستطيع إنسان أن يبذل أكبر من طاقته. والمصدر الذي ننهل منه جميعا، هو مصدر واحد، هو المتاح لنا من علم على هذه الأرض (… ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء …)، فكان الظاهر من العلم وما يمكن أن نكتشفه بحواسنا وبالأدوات التي نبدعها، هو هذا العلم الذي شاء الله لنا أن نحيط به، ومع ذلك، لا يستطيع إنسان واحد أن يلم بكل هذا العلم، وإنما يأخذ الإنسان بسعته كما أشرنا. فالعلم واحد، ولكن إدراكنا لهذا العلم متعدد. وإذا كان هذا العلم ينقسم إلى مفردات، وإلى علوم في تخصصات مختلفة وفي مجالات متعددة، فالمجال الواحد أيضا لا يستطيع إنسان أن يستوعبه كله، وإنما يستوعب جزءا منه، ويراه من زاوية معينة، وقد يراه آخر من زاوية أخرى. فالعلم في إطلاقه واحد، والعلم في تقييده متعدد. وهكذا الدين كقانون الحياة، هو قانون واحد في معناه المطلق، ولكن حين يتفهمه الناس ويقرؤونه، فإنه يتعدد في قراءاتهم وفي مفاهيمهم. فالخلط بين أن نقول علما واحدا وقانونا واحدا، وبين أن نحاول أن نجعل فهم هذا الواحد، هو واحد أيضا، هو خلط يسبب كثيرا من المشاكل. إنه كالفارق بين التوحيد للمعنى المطلق، وبين التعديد في المعنى المقيد. إنها قضية واحدة، تتكرر بصور مختلفة. فإرادة الله واحدة في إطلاقها (… ولو شاء ربك ما فعلوه …)، وحين تتنزل هذه الإرادة إلى مجال التقييد، تتعدد في إرادات الأفراد الذين تتعدد رؤاهم، ويحدث بينهم اختلاف في الرؤى، وفي الفعل، وفي المقصد، وفي التفضيل والتقبيح، فيما هو أحسن وفيما هو ليس كذلك، في الصراع، في القتال، في المنافسة، في كل شيء. حتى الذين هم في جانب واحد، رؤاهم تختلف فيما هم فيه قائمون، فلا يوجد هناك حل واحد لكل قضية، وإنما هناك حلول مختلفة، وإن كان المقصد واحدا. لو أدركنا هذه الحقائق، لاستطعنا أن نتفهم كثيرا من الأمور، فلا نخلط بين المطلق والمقيد. فالمطلق واحد؛ لأننا لا نراه، والمقيد متعدد؛ لأننا نراه. فليس هناك واحد إلا الله في تعاليه، وفي احتجابه، وفي غيبه. ولا قائم من وراء الكل بإحاطته ـ في تعددهم ـ إلا الله في تجليه بظاهره في هذا الكون. فلا يجب أن نخلط بين ما هو مطلق وما هو مقيد. لا نستطيع أن نقول أننا نريد أن نحول المقيد ليكون واحدا؛ لأنه لن يكون. ولا نستطيع أن نحول الواحد إلى متعدد، أو الغيب إلى متعدد، أو المطلق إلى متعدد؛ لأنه لن يكون؛ لأننا لا نراه بظاهر حواسنا وإدراكنا، وبما أننا لا نراه، فهو واحد. وبما أننا لا نستطيع أن نصفه بصفات، فصفاته فوق كل صفة وكل تصور، فهو أحد؛ لأنه ليس كمثله شيء، وهذا هو الفارق بين الواحد والأحد (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). هذه السورة ركزت على مفهومين أساسيين: معنى الأحد الذي لم يكن له كفوا أحد، وهو التفرد كغيب؛ لأنك لا تستطيع أن تصفه بأي أحد تراه، وكلمة أحد في “قل هو الله أحد”، تعبر عن هذا المعنى المطلق، وهذا التفرد المطلق. وكلمة أحد في “ولم يكن له كفوا أحد”، تعبر عن الأحد كما تراه وكما تعرفه، تعبر عن الفرد، تعبر عن الإنسان، تعبر عن المشهود. إذا كان هناك ما تتصور أنه أحد فيما تشهده بأي صورة، فهي ليست كفوا لهذا الأحد المطلق. لو تصورت أن هناك من هو قائم على هذه الأرض ليس كمثله أحد، متفرد في قوته، متفرد في ذكائه، متفرد في قدراته، متفرد في كرمه، متفرد في كل شيء ـ فالله أكبر، وليس هذا الذي تراه، في معنى الأحد الذي هو غيب لا تراه، تعالى عن أي صورة وعن أي شكل. هذا التفرد، يجعلك لا تستطيع أن تقول أن الله قال كذا، أو أن الله يريد كذا، أو أن هذا حكم الله، يمتنع عليك ذلك عقلا وصدقا؛ لأنك تخشى الله، و (إنما يخشى الله من عباده العلماء …)، أما الذين لا يخشون الله، فإنهم يقولون هذا رأي الله، وهذا حكم الله، وهذا كلام الله، وهذا فعل الله، وهم لا يعرفون أن كل ما يقولون، يوم يحددونه في شكل أو صورة، هو رؤيتهم وكلامهم ورأيهم. الله في كل صورة وفي كل شكل، وتعالى عن كل صورة وعن كل شكل، هو من وراء كل صورة وكل شكل، وهو دون كل صورة وكل شكل، وهو فوق كل شيء ودون كل شيء، وقبل كل شيء وبعد كل شيء (يا ظاهر فليس فوقك شيء، ويا باطن فليس دونك شيء، ويا أول فليس قبلك شيء، ويا آخر فليس بعدك شيء]. المعنى الآخر، هو معنى “الصمد”، والصمد هو من لا أول له ولا آخر له، ويعبر عن معنى “الصمد” ويؤكده معنى، “لم يلد ولم يولد”، إنه معنى مجرد، لا يمكنك أن تتصوره في وجودك المادي. فأنت في وجودك المادي ترى السبب والمسبب وأثر هذا السبب، وتجد أن لكل شيء مسببا ولكل شيء سببأ في وجوده، ولكنك إذا رجعت إلى الوراء، فإنك لا تستطيع، حتى في الموجودات، أن تعرف كيف وجدت، فأنت وجدت نباتا، ثم عرفت أن هذا النبات يتكاثر، وعلمت كيف يتكاثر، فجعلته يتكاثر، لكنك لا تعرف كيف تواجد هذا النبات في أول الأمر، ولا تعرف كيف تواجد الإنسان في أول الأمر. وكل النظريات في هذا المجال، هي نظريات قد تجد بعض ما يفسرها فيما يجده العلماء من آثار قديمة، لكن في كل هذه الأحوال، وماذا قبل ذلك؟ فإذا ظللت تسأل ماذا قبل ذلك؟ ما أوجد ذلك؟ ما أوجد ذلك؟ سوف تصل إلى الغيب، لا أعرف، سوف تصل إلى نقطة لا تعرف ما قبلها، وهذا معنى الصمد في الظاهر وفي الغيب، لا نستطيع أن نعرف. وهذه هي بداية المعرفة، أن تعرف أنك لا تستطيع أن تعرف، وأنك لك حدود في أن تعرف، وأن هذه الحدود قد تتسع وقد تضيق طبقا لسعتك، ولكنك مهما اتسعت ـ كقيام مقيد ـ فإن لك حدود، وأنك تعمل في نطاق قانون لا تستطيع أن تخرج عنه، وأن معنى العبودية لله، هي أن تدرك هذا القانون الذي تستطيع أن تدركه. وهذا التعبير، نجده في آيات أخرى، (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان)، أقطار السماوات والأرض، هي أقطار نسبية، تعني أنك ربما فكرت في لحظة ما أنك لا تستطيع أن تبعد عن هذه الأرض إلا مسافة معينة ولكنك بعد ذلك استطعت أن تطلق صاروخا وسفينة فضاء إلى كواكب أخرى. ما كان يتصور أحد أن يصل إلى القمر، أو أن تصل سفينة إلى المريخ، أو إلى أي كوكب آخر، أو أن تخرج من نطاق المجموعة الشمسية، ولكن كل ذلك ليس شيئا، إنها كقطرة في بحر، وكمسافة صغيرة، صغيرة جدا بالنسبة للانهائية المسافات في الكون. فإن استطعت أن تنفذ من هذا القطر فانفذ، كلما استطعت أن تنفذ فانفذ. وكلما استطعت أن ترى ما هو صغير، فحاول ذلك. ولذلك، اخترع الناس أو العلماء، الأدوات التي تمكنهم من رؤية جزيئات المادة في أقل مكوناتها التي يعرفونها. إن استطعت أن ترى ما في داخل المادة فحاول أن تنفذ إلى ما هو صغير، كما تحاول أن تنفذ إلى ما هو كبير، وفي كلتا الحالتين لن تصل إلا بما أنت له أهل، وسوف تصل إلى نقطة ـ بالنسبة لك ـ تجدها حائلا، فإذا حاولت أكثر، ربما تتقدم، ولكن ستظل كذلك إلى ما لا نهاية. وأسماء الله الحسنى كلها معان غيبية ، فهو رحمن ورحيم، ولا تستطيع أن تتصور رحمته. وهو جبار، لا تستطيع أن تتصور جبروته، وهو حليم، لا تستطيع أن تتصور حلمه. وهو سميع، لا تستطيع أن تتصور معنى أنه سميع. ويوم تتجلى هذه المعاني علينا في واقعنا، فإننا نرى منها وجوها ظاهرة لنا، فنرى وجها من رحمته في رحمته بنا، ونرى زاوية من توفيقه في توفيقه لنا، وفي معناه كحسيب فيما يحدث لنا، ورقيب يوم نشعر به يرى ما نفعل. فنحن نرى تجلي هذه المعاني، ولكننا لا نستطيع أن نحيط بها. وكل يراها كما يشعر بها، وكما يتصورها، وكما يستوعبها…”

تعليق:

تأمل في سورة الصمدية وعلاقتها بأسماء الله الحسنى وقدرات الإنسان وإمكاناته

مفاهيم دالة :

٢٥٠ - قيامك في معنى: “إن لم تكن تراه، فإنه يراك”، هو أنك تؤمن به غيبا، فإذا آمنت به، أصبح منعكسا في الشهادة، تراه في كل ما يحدث لك وفي كل ما يصدر عنك

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/٢/١٦

”… هل عرفنا حقا ما هو معنى التجمع على ذكر الله؟ وما هو ذكر الله أولا؟ هل ذكر الله في أن تسبح بأسمائه، أو باستغفاره، أو بالصلوات والسلام على رسوله؟ هل ذكر الله هو في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت الله؟ إنه كل ذلك وأكثر. إنه كل ذلك يوم تقوم في كل أمر وفي كل شعيرة وأنت تتدبر فيها، وتتأمل في القيام بها. إنه أيضا في كل معاملاتك، وفي كل أحوال حياتك، يوم تكون ذاكرا الله فيها. ذكر الله، هو أن تستحضر معنى علاقتك بالغيب في كل لحظة وحين، إنه الإحساس بالغيب دائما، إنه القيام في معنى: (… إن لم تكن تراه، فإنه يراك …). إن قيامك في معنى: “إن لم تكن تراه، فإنه يراك”، هو أنك تؤمن به غيبا، فإذا آمنت به، أصبح شهادة، حتى وإن كنت لا تراه. لذلك، قال الإمام علي: (كيف أعبد ما لا أرى؟..). فإذا قام العبد في هذا الحال رآى الله منعكسا في الشهادة، رآه في كل ما يحدث له وفي كل ما يصدر عنه، رآه في نفسه الزكية، ورآه في نفسه الأمارة بالسوء، رآه في رحمانه وفي شيطانه، رآه فيما يصيبه من خير وما يصيبه من شر. وأصبح برؤيته له في كل أمر، مكبرا إياه عن أي صورة يحبها أو يكرهها، وقد أدرك أن الحب والكره ـ من وجهة نظره ـ لا يعنيان شيئا بالنسبة لعلاقته بالله، إنهما فقط مقياس ليستطيع أن يتحرك على هذه الأرض وليعيش عليها، أما الله فهو أكبر مما يحب وأكبر مما يكره، وهو يعلمه ذلك في قوله: (…عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم…). إستحضار معنى الغيب، إستحضار معنى أنك لا تعرف، إستحضار معنى أنك لا تستطيع أن تحكم، إستحضار معنى الافتقار إلى الله، إستحضار معنى: (الذين يؤمنون بالغيب..)، معنى: (فسبح بحمد ربك واستغفره…) إذا جاء نصره، جاء أمر كنت تراه بعيدا، كنت ترى الناس وهم في غفلة عما بين أيديهم من نعمة، ثم جاء ما أيقظهم ، وهنا نجد إضافة الاستغفار للحمد، حيث أن كل أمر وأنت ترى فيه فتحا وتغييرا إلى الأفضل ـ بمقياسك ـ فأنت تحمد الله عليه، وفي نفس الوقت تستغفر الله. تستغفر الله من حمدك له، وتحمد الله على استغفارك له. فحمدك لله على رؤية رأيتها أنها الأفضل، هو أمر يجب أن تستغفر عنه، فماذا لو لم يحدث ذلك؟ واستغفارك عن أمر استقبحته، هو أمر يجب أن تحمد الله عليه. فذكر الله، هو أن تكون في هذا الحال، الذي يحمد ويستغفر في نفس الوقت، الذي لا يحكم أحكاما مطلقة، الذي يشعر بافتقاره إلى العلم والمعرفة، وبافتقاره إلى توفيق الغيب له. القيام في هذا الحال يكون ذكرا لله، وأي حال يجعلك شاعرا بعظمة وكبر وإحساس بالإحاطة، هو بعد عن أن تكون ذاكرا لله. لذلك، فإنا يوم نجتمع على التواصي بالحق والصبر بيننا، يوم نجتمع على أن نذكر أنفسنا بذلك، يوم نجتمع على الدعاء والطلب والرجاء، يوم نجتمع على طلب الصلة وإقامة الصلاة، يوم نتواصى بالحق والصبر بيننا في غير تكبر، بل في تواضع وافتقار، فإنا نكون مجتمعين على ذكر الله. فالاجتماع هنا، هو اجتماع على حال وليس اجتماعا لأجساد، وذكر الله هو حال وليس فعلا بذاته، فقد تكون مسبحا ولكنك لست ذاكرا، قد تكون مؤديا لشعائر الصلاة ولكنك لست ذاكرا، قد تكون متواجدا بجسدك مع إخوان لك في الله، أو على تحدث في أمور لها علاقة بوجودك المعنوي، ولكنك لا تكون ذاكرا. الذكر، هو أن تخلي وجودك كله من أي حال مسبق، أوفكرة، أوعقيدة، أو إحساس، أو قرار، أو مفهوم. إنه حال تقبل واستقبال، حال تخل عن أي صورة أو شكل، طلب الحق دون أن نحدد له صورة، طلب الاستقامة دون أن نحدد لها شكلا…

تعليق:

الذكر هو حال تقبل واستقبال، حال تخل عن أي صورة أو شكل،هو طلب الحق دون أن نحدد له صورة، وطلب الاستقامة دون أن نحدد لها شكلا

مفاهيم دالة :

٢٥١ - آيات القرآن تتكامل في معانيها وتقود الإنسان إلي معني حياته الأرضية وإدراكه لعلاقته بالغيب

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/٤/١٣

”… (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، هذه الآية، تكشف لنا عن السلوك في طريق الحياة وفي طريق النجاة، بما تحمله من معان تتخطي أي شكل أو صورة، إنما توضح الأساس الذي يسلك عليه الإنسان. ماذا تعني هذه الكلمات :“الذين قالوا ربنا الله” ؟ هل هي مجرد نطق باللسان؟ أم هي حال يقوم فيه الإنسان؟ أم هي قول يحول الإنسان من حال إلي حال؟ أم هي شرح لشهادة أن لا إله إلا الله؟ أم هي فهم للإيمان بالغيب؟ إنها كل ذلك، إنها تعبير عن كل هذه المعان والمفاهيم. يلي ذلك “ثم استقاموا”، فما هي الاستقامة؟ هل الاستقامة هي مجرد القيام بالشعائر؟ هل الاستقامة هي في التعامل مع الناس بالعدل والقسطاس؟ هل هي السير في الأرض بحثا عن العلم والمعرفة؟ هل هي التجمع علي ذكر الله؟ هل هي التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ هل هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ إنها كل ذلك. هذه الآية: “الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” تفسير لشهادة أن لا إله إلا الله، ولشهادة أن محمدا رسول الله. ما هي نتيجة هذا القول وهذه الاستقامة؟ هل يكون نتيجة هذا القول وهذه الاستقامة، هو كبر وتكبر؟ أو خوف وخشوع وافتقار إلي الله؟ إنا ـ كما نذاكر دائما ـ أن الحال الذي يخشي منه الذي يسير في طريق الله، هو أن يكون متكبرا، أن يكون مغترا، أن يعتقد أنه وصل إلي الكمال. ولذلك، فإن الذي قال ربنا الله ثم استقام بحق، سوف يكون في معني الذي يخشي الله “…إنما يخشي الله من عباده العلماء…” ، سيكون في معني: (أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه). لذلك، نجد الآية: “تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا”، إنهم في خوف وفي حزن، فيكونون بذلك أهلا لأن “تتنزل عليهم الملائكة”، وتقول لهم: “ألا تخافوا ولا تحزنوا”، فلا يزيدهم ذلك إلا أن يكونوا أكثر خشية، وأكثر دعاء، وأكثر طلبا، (إنه ليغان علي قلبي حتي أستغفر الله في اليوم سبعين مرة، أأغيان أغيار يا رسول الله؟ بل هي أغيان أنوار). فإذا نظرنا إلي واقعة الإسراء والمعراج في هذا الإطار، فإن الإسراء والمعراج كانا في إطار معني: “تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا”، وأما ما نفهمه من نتيجة هذه الواقعة، أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم تزده هذه الآية من ربه، إلا افتقارا إلي الله (أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه). والإسراء ـ كما نتأمل دائما ـ هو تعبير عن حال الإنسان الذي قال ربنا الله ثم استقام، وهو في لباسه البشري (سبحان الذي أسريٰ بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي..)، وإذا كان الليل هو تعبير عن وقت، فهو تعبير عن حجاب، هو تعبير عن وجود بشري في قيام محدود. وما المسجد الحرام، إلا تعبير عن قيام الإنسان في وجود حقي، نتيجة لشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بقوله ربنا الله واستقامته، (… واستقم كما أمرت …)، فيكون بذلك أهلا لأن تتنزل عليه الملائكة، ولأن يسري به من هذا الحال إلي حال أعلي وأكبر وأقصي، وأن يريه الله من آياته الكبري (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). فهل ينتهي الأمر عند ذلك؟ أم أن القيام علي هذه الأرض مستمر، وتصبح العلاقة قوية بين الأرض والسماء (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة …)، تعبير عن حال الإنسان الذي يظل متمسكا بقول ربنا الله وبالاستقامة، مفتقرا غير مستغن، متواضعا غير متكبر، يكون بذلك أهلا لرحمة الله ولرعاية الله، وأن يكون وليه الله في الدنيا وفي الآخرة، وهذا من فضل الله، ومن مغفرة الله، ومن رحمة الله، (نزلا من غفور رحيم). وهذا التعبير (نزلا من غفور رحيم)، له دلالة قوية في هذا الإطار. الدلالة الأولي، هي استمرار الاستغفار، واستمرار قبول الاستغفار ـ بمعني الغفور. فالإنسان الذي قال بحق ربنا الله، والذي استقام بحق كما أمر، فإنه سيكون في استغفار دائم. إستغفار حقي لا يتوقف، وإدراك حقي، (… وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) وهنا يجئ معني الرحيم، فكل إستغفار يصاحبه رحمة ومن يرحم في دوام هو الرحيم. وهكذا، نجد أن آيات القرآن تتكامل في معانيها، وتعبر عن معني واحد بصور متعددة، وتقود الإنسان إلي المعني الذي يحاول أن يكون عليه في حياته الأرضية، وفي إدراكه لعلاقته بالغيب…

تعليق:

تأمل في الآية )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).

مفاهيم دالة :

٢٥٢ - العلاقة بين العبد وربه، هي علاقة تبدأ من العبد في أحوال، وتبدأ من الرب في أحوال أخرى. الدعاء يبدأ من العبد والهداية تبدأ من الرب

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/٦/١

”… إن الطريق في الله، هو علاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد وربه، هي علاقة تبدأ من العبد في أحوال، وتبدأ من الرب في أحوال أخرى. الآية: (…ادعوني أستجب لكم…) تشير إلى علاقة تبدأ من العبد، والحديث: (إبدأ بنفسك ثم بمن تعول) علاقة تبدأ من العبد. الآية: (من يهد الله فهو المهتد)، علاقة تبدأ من الرب. لذلك، ولنفهم هذا المعنى، سوف نجد أن الله من وراء كل شيء بإحاطته، فهو وراء الإنسان، يساعده أن يبدأ طريقا قويما، يساعده أن يدعوه، فهو من ناحية التجريد هو وراء كل شيء. البدء من الله، فهو يساعد الإنسان أن يكون ذاكرا، وأن يكون عابدا، وأن يكون مجاهدا. أما من جانب التقييد، فالإنسان هو الذي يبدأ. فحين نتأمل في الآية: “من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا”، سوف تجد أن هذا هو القانون المجرد؛ لأنه في الواقع، أنت لا تستطيع أن تقول أن الله قد أضل فلانا، فالله لا يرى. إنك تستطيع أن تقول أن إنسانا هدى إنسانا، أو أضل إنسانا؛ لأنك ترى الهادي والمهتدي، وترى المضل والضال، ولكنك لا تستطيع أن تقول ذلك مع الله، وإنما تؤمن بأن ما يحدث على الأرض، وراءه الله في كل الأحوال، في كل صورة، وفي كل شكل. ولكن هذا لا يمنعك من أن تتصرف في قائمك، بما تراه أنت، وبما تفهمه أنت، من معنى الهداية والضلال. وهذه قضية، كثيرا ما نذكرها؛ لأن الخلط بين فهمك المجرد وبين واقعك المقيد، يسبب بلبلة، ويسبب تشويشا على رؤيتك لما هو قائم من الحق. في أمور كثيرة تجد أن ما أعطاك الله من قدرة على التأمل والتفكر والتدبر في واقعك، وعلى التمييز بين ما تقبله وما لا تقبله، هو الواقع الذي يجب أن تقف وتستند إليه. ونجد أن الناس في عصور كثيرة، اختلفوا بسبب فهم مطلق، أرادوا تقييده، أو حال مقيد، أرادوا إطلاقه. وقد اختلفوا كثيرا على الآيات التي تصف الله مثل: (…يد الله فوق أيديهم…) ، ماذا تعني؟ هناك من يريد أن يجسد الله، وأن يجعل هذا المعنى المطلق، معنى مقيدا، يفهمه بصورة مجسدة، ويختلفون في التجسيد وفي التصوير، مع أنه يكفي أن نكبر الله عن أي صورة، ولا ندخل في أمور غيبية، بمحاولة تقييدها وتجسيدها. وكذلك، الأمور المقيدة التي تخص حياتنا الأرضية، فقد جاءت آيات وأحاديث تتحدث عن واقع معين، وعن حكم معين، ولم يكن هذا الحديث إلا مثالا لتطبيق لمقصد عام، فجعل البعض من هذا التقييد وهذا المثال، قانونا عاما. وهذا، ما نعاني منه إلى الآن، في الذين يطلقون أننا نريد أن نحكم بما أنزل الله، ويتصورون هذا الحكم في صور شكلية محددة، مع أن آيات الله توضح لنا، أن هذه الأمور مرجعها إلى الأمة (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..)، وتوضح لنا الآيات، المقاصد الكلية: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربىٰ وينهىٰ عن الفحشاء والمنكر والبغي …) طالما أن أي تطبيق على الأرض، يلتزم بهذه المقاصد، فإنه حكم الله. فمحاولة تعميم المثال، وإطلاق المقيد، سبب مشاكل كثيرة للبيئات والمجتمعات التي تدعي انتماءها إلى الإسلام. وهذا ليس في الإسلام فقط، وإنما أيضا في الديانات الأخرى، في أمور كثيرة، ولا نريد أن نتطرق إلى أمور بذاتها، فكل يستطيع أن يجد مثل هذه الأمور، وقد ضربنا مثلا فيما نقوله، من مفاهيم في المعاني المطلقة عن الذات الإلهية، وعن المعاني المقيدة في الأحكام الأرضية المادية. إن ما نحاول أن نقدمه في طريقنا، هو تأمل فيما حدث في تاريخنا، بأن نرجع إلى أصولنا، وأن نقرأ آيات الله لنا، قراءة واقعية، ترينا الحق حقا، وترينا الباطل باطلا، بمنظور إنساني فطري، نجتمع عليه جميعا، محاولين أن نصلح مجتمعنا، وأن نصلح بيئتنا. هي محاولة، وهي اجتهاد، وقد أمرنا أن نحاول، وأن نجتهد، وأن من اجتهد فأخطأ فله أجرلأن أي صواب يراه الإنسان هو خطأ برؤية أعمق. لذلك، فتطبيق هذا الحديث في شقه الخاص بخطأ الإنسان، هو القائم في حياة البشر[من اجتهد فأخطأ فله أجر] لتشجيع الإنسان أن يحاول، وأن يجتهد، وأن يتأمل، وهذا دوره في الحياة…”

تعليق:

العلاقة بين العبد وربه، هي علاقة تبدأ من العبد في أحوال، وتبدأ من الرب في أحوال أخرى. الدعاء يبدء من العبد والهداية تبدء من الرب.

مفاهيم دالة :

٢٥٣ - الهجرة كانت إعمال للقانون الإلهي المتجلي في قانون هذه الأرض الذي يحث القلة في مجتمع أغلبه ظلام أن يهاجروا إلى مكان آخر يستقبلهم

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/٩/٧

”… إنا نتذكر في هذه الأيام، هجرة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مكة إلى المدينة وما يحمله هذا الحدث من معان كثيرة في سلوكنا، وفي طريقنا، وفي حياتنا. فسيرة رسول الله هي حديث مستمر ممتد، يقرؤه كل متابع وكل مؤمن بالله ورسوله. نذكر أنفسنا أن قانون الله على هذه الأرض، هو أن يكون دائما هناك معسكر للرحمن به فرق كثيرة، ومعسكر للشيطان به فرق كثيرة أيضا ، معسكر يدعو إلى الحق، إلى الكلمة السواء، ومعسكر يريد أن يطفئ هذه الكلمة، وأن يطفئ هذه الدعوة. وسيظل كل فريق يدعو إلى ما يعتقده، كل يدعو بما يؤمن به، أيا كان هذا الإيمان. وعلينا أن نتعلم كيف نعيش في هذا الحال (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة …)، (… وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا…). فالتصور أن يكون الناس جميعا في صورة واحدة، أو أن تتحول الأرض إلى إيمان واحد، هو أمر غير واقعي طبقا لما شهدناه في تاريخنا، وفي حاضرنا، و ما قرأناه من آيات الحق لنا، التي حدثتنا عن اختلاف الناس وتباينهم، ودفع الله الناس بعضهم ببعض. وسيظل الإنسان يدفع بما يرى هو أنه الخير وأنه الحق، وسيظل إنسان آخر يدفع بنقيضه، بظن أنه الأفضل وأنه الأحسن، وكلنا وجميعنا، لا يمكننا أن نجزم بالحق المطلق، وإنما نحاول أن ندفع بما نرى أنه الأفضل والأحسن والأقوم، طبقا لمعاييرنا، ولحكمنا، ولإحساسنا، ولإدراكنا. وكانت شهادة لا إله إلا الله، هي إكبار لما يريده الله، عن أي صورة نريدها، وعن أي فهم نفهمه، وعن أي تقدير نقدره. وكانت الدعوة، هي أن ندعو إلى (… كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله …). فما يريد أن يصل إليه أي مجتمع، هو أن يكون هناك حوار بين أفراده وجماعاته، كل يحاول أن يدفع بما يرى أنه الخير، ويصلوا إلى كلمة سواء بمعاييرهم وبتقديرهم، وإذا لم يصلوا، يحترمون بعضهم بعضا، ويضعون من المعايير ومن الآليات التي تمكنهم من أن يرجحوا رأيا، ويقرروا قرارا، ويكونوا بذلك قد حسموا أمرهم. فالمجتمع قبل الهجرة، كان لا يقبل هذا الحال. فدعوة رسول الله والتي تريد أن تحررهم من أن يكونوا عبادا لفكر قديم، ولعادات بالية لا يقبلها عقل، ولا يقبلها إنسان يفكر ويتدبر، يدعوهم إلى أن يبتعدوا عن هذه العادات وعن هذه الأفكار. وكانت دعوة شهادة أن لا إله إلا الله، تحمل هذا المعنى، فهي تحررهم من أن يكونوا عبادا لقديم اعتقدوه، وإذا فكروا قليلا، لوجدوا أنه ليس الأفضل وليس الأحسن. ولكن لم يقبلوا هذا الحال، المجتمع المكي لم يقبل التغيير، لم يقبل الدعوة، ولم يكتف بذلك، بل أراد أن يجهض هذه الدعوة في مهدها. ومع إيماننا بالتأييد الرباني لدعوة رسول الله، فهذا لم يمنع أن تكون هناك معارضة، وأن يحاول المعارضون أن ينهوا هذا الأمر. وهنا ننظر دائما إلى القانون الإلهي، وهو أن نعمل قوانين هذه الأرض، فكانت الهجرة، هي تعبير عن إعمال هذا القانون، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا قلة، ولا يستطيعون أن يواجهوا الكثرة، فلم يكن هناك طريق إلا أن يهاجروا إلى مكان آخر يستقبلهم. فهنا، ندرك أن إعمال قوانين الأرض، هو أمر ضروري. والهجرة ـ كما هي في التاريخ ـ كانت انتقالا من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، فهي تحمل هذا المعنى أيضا للإنسان، من أن يهاجر هو أيضا من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، ومن وسط إلى وسط، ومن مجتمع إلى مجتمع. بل أنه لو نظر إلى وجوده على أنه يمثل ويعبر عن هذه الأرض، فسوف يجد في هذا الوجود: نفسه الأمارة بالسوء تعبر عن الوسط الذي يرفض دعوة الحق، فنفسه تشده إلى أسفل، (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض …). داخله، يعبر عن داعي الحق في وجوده، فهو في أعماقه ليس راضيا عن هذا الحال، ويرى في حال آخر، أنه الحال الذي يريد أن يهاجر إليه، يريد أن يكون غير متثاقل، يريد أن يكون مفكرا في آيات الله، متدبرا لآيات الله، ذاكرا بقلبه، فلا يكون أمامه إلا أن يهاجر إلى هذا الحال، لا ينظر إلى نفسه المظلمة، وإنما يحاول أن يهاجر منها وأن يتركها، وألا ينشغل بها، وألا يسير وراءها، وألا ينتظر حتى يصلحها، فهي لن تصلح في الحال التي هي قائمة عليه. ومعنى الهجرة هنا، هو أن يكثر من القيام في ذكر لله، وفي طلب لله، وفي تفكرآيات الله، وفي الاستعانة بالله، وفي استغفار الله، وفي طلب عون من الله. وهنا، في هذا الحال وفي هذا القيام، قد لا تتركه نفسه المظلمة، وإنما تحاول أن تهاجمه، وأن تأخذه من حاله الذي أصبح عليه. فهنا شرع الدعاء وطلب العون، فيجب أن يتجه إلى الله أكثر، وأن يطلب عونا أكثر، وأن يستغفر أكثر، وهذه هي القوة التي تعينه على هذا الظلام. نريد أن نقرأ دائما أحداث التاريخ من زاوية سلوكنا، وكيفية التعامل مع نفوسنا، فهذا هو طريق الصلاح وطريق الفلاح، ولا ننتظر صورة معينة، فكما أن الأرض سوف يظل بها الخير والشر والحق والباطل، فنفسك ووجودك سوف يظل فيه الخير والشر والحق والباطل، المهم كيف تتعامل مع ما فيك من حق ومن باطل، ومن خير ومن شر. فإذا تساءل أحد: ألا يمكن أن يتحول الإنسان، كما قال رسول الله : (كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم فهو لا يأمرني إلا بخير)؟ هذا أيضا حال يطلبه الإنسان، ولكن سيظل فيه شيطانه أيضا، وإنما سوف يتحول أن يأمره بخير، وهذا الخير هو نسبي لما كان يأمره به قبل ذلك. والإنسان وهو في رحلة معراجه إلى أعلى، سيكون هذا الخير أيضا نسبيا بالنسبة لحاله. ولذلك، دائما ما نذاكر بما قاله القوم: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ، (وما من كمال إلا وعند الله أكمل منه) ، فالكمال والعروج لا ينتهي، وقد يتغير حال الإنسان إلى أفضل، وإنما سيظل أيضا فيه الخير والشر، وإن اختلف حال الخير وحال الشر…

تعليق:

إعمال قوانين الأرض، هو أمر ضروري. والهجرة ـ كما هي في التاريخ ـ كانت انتقالا من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، فهي تحمل هذا المعنى أيضا للإنسان، من أن يهاجر هو أيضا من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال، من نفس أمارة بالسوء تعبر عن الوسط الذي يرفض دعوة الحق إلى داخل يعبر عن داعي الحق في وجوده.

مفاهيم دالة :

٢٥٤ - كل قول فيه حياة لا يفنى ولا يزول، فكل ما جاء به محمد رسول الله، هو قائم لا يفنى ولا يزول

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/١١/١٦

”… (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)، هكذا يخاطبنا الحق عن مجيء رسول الله بيننا، يحدثنا عن مولده وعن قيامه في مجتمعنا، في بيئتنا، في أرضنا. فإذا كان مولد الذات المحمدية، هو تعبير عن هذا المعنى وتجسيد له ، وأن كل قول فيه حياة لا يفنى ولا يزول، فكل ما جاء به محمد رسول الله، هو قائم لا يفنى ولا يزول. ومعنى الحياة أكبر من قيام هذه الذات، وما قيام الذات إلا تجلي لمعنى حياة. فظهور الإنسان بالذات، هو تجلي للإنسان في مكان وفي زمان، أما الإنسان بمعناه الروحي فهو أكبر من المكان والزمان، هو قبل هذا المكان، وقبل هذا الزمان، وهو بعد هذا المكان، وبعد هذا الزمان. فإذا كنا نتذكر في هذه الأيام، مولد الذات المحمدية، التي تجلى معنى رسول الله بها، فإنا نتذكر هذا المعنى الدائم، الذي أمرنا دائما أن نكون في صلة به (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). وهذه نعمة الله على الإنسان، أن جعل دائما هناك من يذكره ومن يعلمه. والإنسان حين يدرك هذه النعمة، يطلب دائما من الله أن يجعله كذلك (… رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلىٰ والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين). حين نتأمل في هذه الآيات، نجد أن النعمة الكبرى، هي نعمة الحياة، والحياة هي المعنى الذي يبقيك على هذه الأرض، وهي المعنى الذي يذكرك بمعنى وجودك، وبمعنى قيامك، وبمعنى حياتك، وهي المعنى الذي يحفظك، والذي يقودك إلى ما هو أفضل وأحسن. النعمة التي تشكر الله عليها، ليست في مال، فهناك من لا مال له، وليست في صحة، فهناك من لا صحة له، وليست في جاه، فهناك من لا جاه له ـ ولكن في معنى الحياة فيك، في المعنى الذي يذكرك، والذي يحفظك. هذا المعنى الذي نقول عنه دائما، هو رسول الله لك، هو كلمة الله فيك، هو سر الله بك، هو معنى الحياة لك، وأنت تسأل الله أن يقودك إلى ذلك، وأن يحفزك لتدرك ذلك، وأن يعلمك ذلك يوم تقول: “أوزعني”، لقد أدركت أنك لا يمكن أن تشكر نعمة الله، إلا إذا أوزعك لتكون كذلك، إلا لو جعلك تقوم في ذلك. فكما هي نعمة الله لك، كانت نعمة الله لوالديك، لقديمك، كانت قبل أن تكون “أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلىٰ والدي” إنك تعبر بذلك عن استمرارية قانون الحياة ، وستكون بعد أن كنت “وأصلح لي في ذريتي”، فأنت قائم بين قديم وجديد، وتعلم أن القانون دائم في كل حال. فإذا قمت في ذلك، فأنت تدرك أنك إن كنت على الطريق القويم، وعلى الصراط المستقيم، فتتبع ذلك بالقيام في معنى التوبة، “إني تبت إليك”، أتوب إليك، فقد كنت غافلا عن معنى الحياة في، وعن معنى رسول الله في، ورجعت إلى هذا المعنى، وتبت عما كنت فيه، فأصبحت من المسلمين، “إني تبت إليك وإني من المسلمين”. وهنا، معنى المسلمين، ليس مجرد صفة تكتسبها أو تكسبها بالمولد، وإنما هنا تعبير: أنك قلت: “إني من المسلمين”، تعبير عن أنك كسبتها بإدراكك، يوم اتجهت إلى ربك بأن يوزعك أن تشكر نعمته عليك، وأن تعمل صالحا، وأن يصلح من ذريتك. وهذا التعبير، نجده في آيات أخرى، يوم يعمل الإنسان عملا صالحا ويقول: إني من المسلمين، (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)، (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولٰكن كان حنيفا مسلما …). فالمسلم ليس مجرد كلمة نقولها عن أنفسنا أو عن غيرنا، وإنما هي كلمة يقولها الإنسان عن نفسه، يوم يدرك حقا معنى الإسلام…”

تعليق:

الصلاة على النبي هي نعمة من الله على الإنسان تذكره دائما بالحق فيدعو ربه أن يساعده أن يشكرهذه النعمة التى أنعم بها عليه وهي الإسلام فيقول إنني من المسلمين.

مفاهيم دالة :

٢٥٥ - ظاهرة الموت الفيزيقي هي غيب علينا إلا أننا يمكن أن نطلق عليها آنها قيامة لأن الإنسان يخرج من هذا العالم إلى عالم آخر، وإلى حال آخر، وينظر إلى ما كان عليه

تاريخ الحديث: ٢٠١٨/١٢/١٤

”… نحن لا نعلم إلا القليل، ونسير في هذه الأرض ونحن نتلمس طريقنا وخطواتنا، ونعمل ما نظن أنه الخير وأنه الصواب، ولا ندري ما يفعل الله بنا غدا. هذا حال الإنسان، عرف أم لم يعرف، أراد أو لم يرد، وقد خلق ليتعامل مع هذا الحال ومع هذا القيام (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك) ، ماذا تظن بربك؟ ماذا تظن أن الله فاعل بك؟ (كن كيف شئت فإني كيفما تكون أكون) ، (أنا عند ظن عبدي بي إن خيرا فخير وإن شرا فشر). والظن هنا هوالاعتقاد، ماذا تعتقد أنك ستكون؟ “ما غرك بربك الكريم”؟، ماذا تعتقد أن ربك فاعل بك؟ ليس أمام الإنسان إلا أن يرجع البصر إلى داخله، ويسأل داخله، ويسأل قلبه: ماذا يعتقد في هذا الوجود، في هذا القيام، في هذا الجلباب الذي يتسربل به على هذه الأرض؟ حين يخاطبنا الحق، ويصف لنا حال الإنسان حين يرى ما أصبح عليه، فإنه يصف هذا الحال بالزلزلة القوية (إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها، يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحىٰ لها، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم). فأنت في هذا الحال الذي أنت عليه الآن، لا ترى عملك، ولا ترى ما حصلت في مجاهدتك وجهادك على هذه الأرض. فالقيام على هذه الأرض، هو قيام في ظلام، في ليل، وأنت موعود بأن ترى ما أصبحت عليه وما حصلت عليه (… ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). فيوم الفصل، أو يوم القيامة، أو الساعة، أو الزلزلة، أو البعث، كلها تتكلم عن هذا الحال، وهو حال يرى فيه الإنسان ما عمل. أما الآن، فإن الإنسان لا يرى ما عمل، فإذا زلزل وهو على هذه الأرض فرأى ما عمل، فقد قامت قيامته، (من مات فقد قامت قيامته)، (موتوا قبل أن تموتوا). فظاهرة الموت الفيزيقي، كما نعلمها على هذه الأرض، هي قيامة؛ لأن الإنسان يخرج من هذا العالم إلى عالم آخر، وإلى حال آخر، وينظر إلى ما كان عليه. لذلك، أطلق على هذه الظاهرة، القيامة الصغرى؛ لأن الإنسان يرى حاله الذي صار إليه. الحديث: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار). يرمز إلى أن يعرف الإنسان حاله وقيامه، وما حصله في دورته وفي كرته. والقبر هنا، ليس المكان الأرضي، وإنما هو حال الإنسان ووجوده في عالم آخر، بعد انتقاله من هذه الأرض، وما يسمى في بعض الأحيان لمن يصفون هذا الحال، بعالم البرزخ، أو ما يقال عنه فيما ورد في الاتصال الروحي، أنه أول مستوى في عالم الروح، فعالم الروح هو مجالات كثيرة متعالية، بعضها فوق بعض. إننا نربط هنا، بين حال لا نستطيع أن نرى فيه نتيجة أعمالنا ونحن على هذه الأرض، وبين حال آخر، سوف نرى ما حصلنا عليه نتيجة وجودنا على هذه الأرض، وأن الإنسان في طريق سلوكه في الله، قد يحدث له فتح في وجوده، في لحظة، فيرى ما قدم وأخر، يوم يقوم في معنى: (موتوا قبل أن تموتوا). إن آيات الله تعلمنا عن قديم وجودنا، وعن حاضر وجودنا، وعن قادم وجودنا. تقص لنا قصة آدم عليه السلام، تعبيرا عن قديمنا (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علىٰ أنفسهم ألست بربكم قالوا بلىٰ شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هٰذا غافلين) ، هذا حديث عن قديم. كل الآيات التي تكلمت عن الإنسان في وجوده الأرضي “(ن الإنسان لربه لكنود، وإنه علىٰ ذٰلك لشهيد)، (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن)، (والعصر، إن الإنسان لفي خسر)، (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات …)، هنا، حديث عن الوجود الإنساني في الحاضر. أما وجود الإنسان الروحي بعد انتقاله من هذه الذات، فإن كل أحاديث ما بعد هذه الأرض، هي تعبير عما سيكون ويئول الإنسان إليه (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات …)، (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون). كل هذه المعاني، تعبر عن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مقام، ولكن هل يرونه على هذه الأرض؟ ربما يمضون حياتهم كلها ولا يرون ما حصلوا عليه في حاضرهم، إنما هم مدركون أن وجودهم في حال من الإيمان، ومن العمل الصالح، له أثره على وجودهم وعلى قيامهم في امتداد حياتهم، لا يتعجلون أن يروا ذلك اليوم؛ لأن إيمانهم بذلك راسخ في وجدانهم، في عقولهم، وفي قلوبهم. هذا الرسوخ الإيماني، هو معنى قول الإمام علي: (كيف أعبد ما لا أرى)، فرؤيته هنا، هي رؤية إيمانية، رؤية قلبية، رؤية عقلية، وهذا ما نطلق عليه كثيرا: أن الإنسان عنده قدرة على أن يؤمن بالتجريد، وأن يقوم ذلك في وجدانه، لا يربط بين هذا وبين قدرته على الرؤية الظاهرية، إنما رؤيته، هي رؤية قلبية، روحية، عقلية، تجريدية…”

تعليق:

حديث يربط بينما يعتقد الإنسان عما سيؤل إليه وما جاء من آيات تكشف عن القوانين التي تساعده على تكوين عقيدة تنفعه في حياته المستقبلية في الدنيا والآخرة.

مفاهيم دالة :

٢٥٦ - حديثنا موجه لمن يتساءلون، ولمن يطلبون، ولمن يشعرون باحتياجهم إلى معرفة أكبر، وإلى فهم أعمق لما جاء به الدين، ولما جاءت به آيات الله لنا

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/٢/١

”… إن حديثنا دائما، هو حديث ينبع من الواقع، وينبع من تساؤلاتنا، وينبع من احتياجنا للمعرفة. لذلك، فهو موجه لمن يتساءلون، ولمن يطلبون، ولمن يشعرون باحتياجهم إلى معرفة أكبر، وإلى فهم أعمق لما جاء به الدين، ولما جاءت به آيات الله لنا. أما الذين لا يملكون أي أسئلة ومكتفون بما هم عليه، فهذا الحديث ليس موجها لهم. إن بداية طريق الإنسان، هو تساؤله عن معنى حياته، وعن معنى وجوده على هذه الأرض، وستظل الإجابة على هذا السؤال غيبا عليه، ولكن سيحاول دائما أن يجد إجابة، ليتمكن من العيش على هذه الأرض. وهنا، نشهد حكمة الخالق في خلقه، فقد أوجد الله في الإنسان رغبات لما خلق على هذه الأرض، فخلق عنده الرغبة في المعرفة، وخلق أيضا له الرغبة في أمور مادية على أرضه، وأوجد له احتياجات عليه أن يحققها، وحبب له معنى الحياة في هذا الكون، فتولدت بذلك عنده أهداف أرضية، تجعله يتحرك إليها، وهذه نعمة من الله عليه، فانشغل بهذه الأهداف الأرضية، فأصبحت ـ بالنسبة له ـ سببا لوجوده، وسببا لمعيشته. وفي نفس الوقت، ذكره الله بأن هذه الأرض ليست إلا مرحلة من مراحل حياته (وللآخرة خير لك من الأولى)، وعلمه وأوجد فيه ضميرا وحسا بمعنى العدالة، وبمعنى الاستقامة، وبمعنى العطاء والخشية، وأخبره عن نفسه وظلامها، وبظلام الناس من حوله، (قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة و الناس)، (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين)، هذا التوازن بين حب الإنسان لوجوده وأهدافه المادية، وبين خشيته لله، وإدراكه أن وجوده له أهداف أبعد من هذه الأهداف المادية، هو الذي يجعل الإنسان يتزن في قيامه، وفي سلوكه، وفي طريقه، وفي حياته. ومن هنا، كانت الدنيا بكل أبعادها، تلعب دورا في ارتقاء الإنسان في طريقه الروحي، حتى حياته الأرضية وما فيها من دوافع لوجوده بجسده ومتطلباته. لذلك، كانت دعوة رسول الله أن يتزن الإنسان بين طلبه الروحي، وبين وجوده المادي. فحين جاء له البعض يقولون أنهم قد تخلوا عن وجودهم المادي والأرضي، وأنهم تفرغوا لجانبهم الروحي والمعنوي، قال لهم: أنا لست كذلك، أنا أصوم، وأفطر، وأعمل وأسعى (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) وأن كل إنسان عليه أن يسعى في هذه الأرض، ليخدم الناس، (خير الناس أنفعهم للناس). لذلك، نحن لا نفرق بين أي عمل على هذه الأرض، سواء كان هذا العمل دنيويا أو عملا تعبديا، إنه عمل في طريق الله. محاولة الإنسان الدائمة، أن يتوازن في سلوكه وفي طريقه، هي الصراط المستقيم، الذي نطلبه دائما في كل قراءة لنا للفاتحة (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم …)، الميزان، الأمر الوسط، الاتزان…

تعليق:

حديثنا ينبع من تساؤلاتنا، ومن احتياجنا للمعرفة، وهو موجه لمن يتساءلون، ولمن يشعرون باحتياجهم إلى معرفة أكبر، وإلى فهم أعمق لما جاء به الدين، ولما جاءت به آيات الله لنا.

مفاهيم دالة :

٢٥٧ - حب الإنسان لرسول الله ليس حبا لذات، وليس حبا لأي صورة أو شكل، وإنما هو حب لما هو أفضل، وأحسن، وأقوم، وأعلى، وأرقى، هو للخلق العظيم، هو للخلق الكريم

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/٣/٨

”… إن الإنسان من قديم الأزل، وهو يبحث عما وراء هذا الكون، مستخدما في ذلك ما يملكه من أدوات، بما يستطيع أن يراه وأن يسمعه، وكل ما يمكنه أن يفكر فيه ويتصوره، فخلق صورا من خياله، فرسم رسما، وصنع صنما، ونسب كل ما يحدث له، إلى هذا التصور الذي تصوره، وبظن منه، جعل إيمانه وسيلة ليتكاسل وليتقاعس عن أن يبحث، وأن يعمل، وأن يغير. وظلت هذه الصورة في أعماق الإنسان، حتى بعد الرسالات السماوية وما جاءت به من كشف لحقائق عن هذه الحياة، ولا زلنا نرى هذه الصورة في حياتنا، والتي يعتبرها البعض، هي الصورة المثلى للمؤمن. فهو الذي لا يفعل شيئا؛ لأن الله يفعل كل شيء؛ ولأنه لا يسأل عن شيء؛ لأنه قد أمر بكل شيء، وأنه الذي لا يغير ظلاما؛ لأن الله أراد هذا الظلام، وأن الذي يتساءل، يخرج عن الإيمان، وأن الذي يبحث ويغير في الكون، يخرج عن هذا الإيمان، وأن الذي يحاول أن يتأمل فيما يحدث له من أمور تصيبه في حياته، أو تصيب أمما وشعوبا، يخرجه ذلك عن الإيمان. فيتحول الإنسان إلى كيان لا يفكر، ولا يعمل، ولا يغير، وإنما هو كائن سلبي، ويتصور الإنسان أن هذا هو الإيمان. وإن كان في بعض هذه التصورات أو الأفكار جزء من الحقيقة، إلا أن تنفيذها على أرض الواقع، يؤثر سلبا على الإنسان. إن حقائق الحياة التي نتعلمها، والتي هي ـ كما نقول دائما ـ حقائق نسبية، وليست حقائق مطلقة، هي ما تشهده عيوننا، وما تسمعه آذاننا، وما تعقله عقولنا، وما تستريح إليه ضمائرنا، وما تفتي به قلوبنا. حقائق الحياة، هي كل ما هو أحسن بالنسبة لنا، )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن …(، فلا تقولوا لهم مثلا: إن صلاتنا خير من صلاتكم، وأن إيماننا خير من إيمانكم؛ لأنكم لا تعلمون إيمانكم ولا تعلمون إيمانهم؛ لأن الإيمان هو أمر مجرد، لا نستطيع أن نتفق عليه، أو نرسمه، أو نصوره، كما أننا لا نستطيع أن نصور الله، أو نجسده، أو نقول: أن الله هو كذا وكذا، ويقول آخر أمرا مختلفا. إذا دخلنا في هذا، فنحن ندخل في متاهات لا نهاية لها، إنما ما هو أحسن، هو الحق بالنسبة للإنسان، وما هو أحسن، هو ما نتفق عليه بعقولنا كبشر، وهو في حد ذاته، قد يكون بين التقييد وبين التجريد، فقد نختلف أيضا عليه، ولكن نستطيع أن نقيسه أو نحدده إلى حد ما، وهو أيضا متغير بالنسبة للظروف والأحوال التي يمر بها الإنسان. إنما في لحظة ما، وفي مكان ما، وبالنسبة لأمة ما، تستطيع هذه الأمة أن تعرف ما هو الحق بالنسبة لها. ولذلك، كان التوجيه الإلهي: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر …). ولنتأمل في آيتين؛ كل آية تعبر عن حال يمكن أن تقوم فيه الأمة. الآية الأولى: (… أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم …)، والآية الثانية: (… ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر …). هنا، قد نجد معنيين مختلفين، أو متضادين. فالذين يحاولون أن يتكلموا باسم الله، ويحكموا باسم الله، يستخدمون الآية: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ويعرفون أولي الأمر بالحكام، أو العلماء الذين يعرفون الدين، والذين يتكلمون باسم الله وباسم الرسول، الذين عرفوا ما يريد الله وما يريد الرسول. وهذا تعريف فيه قصور شديد؛ لأنه لا يستطيع إنسان أن ينسب لنفسه ذلك. فإذا كان، وقد قيل في حق الرسول: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، وهو أمر، لو أخذناه في الزمان الذي عاش فيه رسول الله بذاته المحمدية، لكان واضحا جليا وله تفسير مباشر، ولو أخذنا الآية الأخرى: (وشاورهم في الأمر)، نرى أن الخطاب موجه للرسول أن يشاورهم في الأمر، ليكون ذلك تعليما لنا مستمرا، أنه لا يستطيع أي إنسان ، أن يجيء على هذه الأرض ويقول: أنا ربكم الأعلى، أنا آمر فأطاع، ولا آخذ رأي أحد آخر. والسنة الفعلية، التي قام بها رسول الله أنه كان يشاور أصحابه في الرأي، والقصص كثيرة في ذلك. وحين خاطب أصحابه بما ينفعهم في علاقتهم معه، لم يقل لهم: أطيعوني، وإنما قال لعمر: (لن تؤمن يا عمر حتى أكون أحب إليك من مالك وولدك ونفسك التي بين جنبيك). فالقضية هنا، محبة، هي قضية حب الحياة، حب النور، حب الحق، حب أن تكون في مقام أفضل. فحب الإنسان لرسول الله ليس حبا لذات، وليس حبا لأي صورة أو شكل، وإنما هو حب لما هو أفضل، وأحسن، وأقوم، وأعلى، وأرقى، هو للخلق العظيم، هو للخلق الكريم، هو للصراط المستقيم، هو للعلم والمعرفة، هو للذكر والتأمل والتدبر، هو في التواضع والافتقار، هو في الدعاء والخشية ـ حب لكل هذه الصفات. فحين يجيء شخص ما، في بلد ما، في زمن ما، ويقول للناس: إعملوا ما أقوله لكم، ولا تستمعوا لقول آخر أو لرأي آخر، فالرأي ما أرى، والأمر ما آمر به، والحق ما أعلمه أنا، وما قاله الله هو ما أقوله، وما قاله رسول الله هو ما أقوله. كيف يجرؤ إنسان ما أن يقول ذلك؟ والتعامل والخطاب الموجه لرسول الله، ليكون تعليما لكل إنسان تسول له نفسه أن يعتقد أنه الأفضل والأحسن والأقوم، يقول لرسوله: (…واخفض جناحك للمؤمنين). لذلك، فأي أمة، ما تبحث عنه ليس حقا مطلقا، وليست صورة مطلقة، وإنما هو ما تراه أنه الأفضل والأحسن والأقوم، بمقاييس عقلية، وإدراكية، وحسية، تقاس وتعتبر ـ وهذا ما نطلق عليه، أنه الحق بالنسبة لها.والإنسان كذلك، حين يريد أن يتبع الحق، فالحق بالنسبة له، هو ما يعقله، وما يدركه، وما يرى فيه أنه الأفضل والأحسن والأقوم له ولغيره، لا يعتدي، ولا يأخذ ما ليس له، إنما هو في إحساسه بمسئوليته تجاه نفسه وتجاه الآخرين. فإذا أصابه ضر، حاول بكل طاقته أن يدفع هذا الضر، وإن أصابه خير حاول بكل قدرته أن يحافظ على هذا الخير، وأن يكون به أهلا للخير له ولمن حوله، هذه قيم فطرية طبيعية، قد يشذ عنها البعض، ولكن الأغلبية العظمى من الناس، قد يكون فيها هذا المعنى…”

تعليق:

تأمل في الآيتين: (… أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم …)، (… ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر …) وكيف أن الرسول لم يستخدم الآية الأولى لفرض رأي على الناس و إنما استخدم الآية الثانية للتعامل معهم في أمور دنياهم. أما في الأمور التوقيفية التي ليس لها تسبيب مادي فالتوجيه كان للمؤمنين للطاعة في هذه الأمور مادامت قد صدرت من مصدرغيبي وفسرها رسول الله في مظهر مشهود ونقل عنه.

مفاهيم دالة :

٢٥٨ - الدين هو منهج حياة وليس مجرد أوامر صماء، إنما أوامره هي أوامر حية، تتفاعل مع الإنسان ويتفاعل الإنسان معها، ومن هذا التفاعل يتطور الإنسان

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/٥/١٧

”… إن كل إنسان يقرأ آيات الله بما هو له أهل. لذلك، نجد أناسا يقرأون آيات الله وقلوبهم مظلمة، فلا تصل المعاني التي تحملها الآيات، لا تصل إليهم، وإنما يصل إليهم ظلام نفوسهم وجهلهم، فيفهمون ما تريد هذه النفوس، ما هم له أهل من ظلام وجهل. وهناك من يقرأون آيات الله، قلوبهم طاهرة حية، فيصل إليهم مفهوم حي، مفهوم يقودهم إلى الحياة، ويقودهم إلى النجاة. وهكذا في كل أمور الحياة، فالإنسان لا يرى فقط بعينيه، ولا يسمع بأذنيه، لا يسمع ولا يرى بحواسه فقط، وإنما أيضا بقلبه، وبعقله، وبعلمه، وبنيته، وبطلبه، وبحبه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها مااكتسبت…). هذا قانون من قوانين الحياة، هكذا خلق الله الإنسان (في أي صورة ما شاء ركبك)، حتى في صورتك الحالية الإنسانية، فالناس ليسوا سواء، إنهم صور متعددة، كل إنسان له أهليته وله قدرته. والدين يدعونا أن نوسع قدراتنا، وأن نجعلها أكثر اتساعا، وأكثر قدرة على التفهم والتعلم، وما كل العبادات والمناسك، إلا لتحقق هذا الأمر. الدين هو منهج حياة وليس مجرد أوامر صماء، إنما أوامره هي أوامر حية، تتفاعل مع الإنسان ويتفاعل الإنسان معها، ومن هذا التفاعل يتطور الإنسان من حال إلى حال، ومن قيام إلى قيام، ومن قدرة على الفهم إلى قدرة أكبر، ومن قدرة على العمل إلى قدرة أعظم. وتتفاوت قدرات الإنسان (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، ولكن على كل إنسان أن يفعل طاقاته، ويفعل إمكاناته، ويستخدم ما أودع الله فيه من سره، وما أودع الله فيه من قدرات مختلفة، قد تتفاوت بين البشر، ولكن يفعل كل بأهليته، وبما أنعم الله به عليه. وهذا معنى من معاني: (وأما بنعمة ربك فحدث). فهنا المفهوم ليس فقط أن تقول أو أن تتحدث بما أفاء الله به عليك من نعم ظاهرية، وإنما أيضا من نعم حقية، فإذا فهمت فهما، أو إذا أدركت إدراكا وجدت فيه نفعا للآخرين، فتذكر وتتحدث بهذا الذي فهمت، وبهذا الذي عرفت. وهذا معنى من معاني أيضا: (… وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). والحق هو حق نسبي، والحق المطلق هو الله، أما ما ترى أنه الحق فهو رؤيتك أنت، وقدرتك أنت، وعليك أن تحاول أن تتقبل من الآخر، حتى تتغير إلى الأفضل والأحسن والأقوم. هذه السلوكيات التي نتحدث عنها، هي ما تؤدي إلى أن يرتقي الإنسان في طريق الله، هذا هو معنى السلوك في طريق الله. وما يدركه الإنسان في قضية ما، أو في قضايا ما، هو مؤشر على ما تنتجه ممارساته وعباداته في طريق الحياة. وصفات الإنسان كذلك، وتعاملاته، تتغير بصلاته، وبصومه، وبذكره، وبدعائه، وبزكاته، وبحجه، وبكل أعماله الصالحة، ويمكن أن يرى فيها الإنسان مؤشرات على مدى تقدمه أو تأخره. وإذا كان البعض يرون أن سلوكهم في الطريق يجب أن يؤدي بهم إلى جمالات، وإلى أحوال تنخرق فيها العادات، وتحدث فيها المعجزات، فهذه رؤية محدودة. أما ما تستطيع أن تلحظه حقا، هو في مدى إدراكك لمعاني دينك، ولمعاني حياتك، ولمعاني تعاملاتك، وما تعمله وتفعله فعلا في حياتك، وفي كل أحوالك على هذا الكوكب. لذلك، نجد الحديث يقول: (من لم تنهه صلاته فلا صلاة له)، (… إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ..)، (من لم ينهه صومه عن قول الزور فلا صوم له)، هكذا نتعلم أن هذه العبادات، لها نتائج تنعكس على الإنسان في سلوكه وفي فهمه. والإنسان يبدأ ببذرة الحياة الموجودة فيه، وبقلبه المفطور عليه، ثم ينمو شيئا فشيئا، ويتغير إلى صورة بعد صورة ( في أي صورة ما شاء ركبك”… )، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..”). وتغييرك لما في نفسك، هو بعباداتك ومناسكك، وتأملك وتفكرك، وذكرك ودعائك، وحمدك وشكرك، وطلبك المستمر في أن تكون أفضل وأن تكون أحسن، وفي استغفارك الدائم، وفي توبتك الدائمة، وفي رجوعك إلى الله في كل وقت وحين…”

تعليق:

كل إنسان يقرأ آيات الله بما هو له أهل طبقا لقانون “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”

مفاهيم دالة :

٢٥٩ - الحياة بالنسبة لوجود الإنسان هي قدرته على التفكر، والتأمل، والتدبر، والفعل، قدرته على الرؤية والاستماع، قدرته على التغيير، وعلى البناء، وعلى التعمير

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/٩/٦

”… حين نتأمل في مدلول كلمة “حياة” بالنسبة لوجود الإنسان، نجد أنها قدرته على التفكر، والتأمل، والتدبر، والفعل، قدرته على الرؤية والاستماع، قدرته على التغيير، وعلى البناء، وعلى التعمير. والموت عكس الحياة، فالميت لا يسمع ، ولا يرى، ولا يستطيع أن يغير. ولذلك، نجد أن الآية حين استثنت “الذين قتلوا في سبيل الله” من وصفهم أمواتا، ووصفتهم بأنهم أحياء، فإن هذا يعني أنهم يرون، ويسمعون، ويفعلون، ويفكرون، ويتأملون، ويتدبرون، بصورة قد تختلف عنا وعن حياتنا، ولكن المقصود هنا، هو التفريق بين الحياة والموت. والدين هو الحياة؛ لأنه هو المنهج الذي يحافظ على حياة الإنسان في حاضره وفي مستقبله، والدين - كما نذاكر دائما - ليس في الأشكال ولا في الصور، ولكن فيما وراء الأشكال والصور، إنه ما يحيي الإنسان، ما يجعل قلبه حيا، وضميره حيا، وعقله حيا، وحواسه حية، وقدرته على الفعل فيها حياة. فالإنسان الذي يراقب أفعاله، نقول عنه أن ضميره حي، أما من “… أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا” فهو وإن كان في ظاهره حي بحركته المادية، بذهابه ومجيئه، باستماعه لما يدور حوله، إلا أنه ميت من الداخل. الذي لا يفكر ولا يتدبر، عقله ميت. الذي يسمع القول فلا يتبع أحسنه، هو لا يسمع، حواسه ميتة. الذي يسير في الأرض فلا ينظر إلى كيف بدأ الله الخلق، فهو لا يرى. الذي لا يعمل عملا يفيد به من حوله، فعله ميت، لا أثر له، ولا بقاء له. الدين منهج يوجه الإنسان إلى الحياة، وإلى أن يفعل كل طاقاته وكل إمكاناته، ليغير وجوده إلى الأفضل والأقوم. وعلى الإنسان حين يدرك ذلك، أن يبدأ خطوة في طريق الحياة، وبداية الأشياء هي رمز لهذه الخطوة. فالهجرة هي بدء جديد، واحتفالنا بالهجرة هو احتفال ببدء جديد، فقد كانت هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، هي بداية جديدة لمجتمع أفضل، ولفهم في الحياة أقوم، ولنظام حياة أحسن، هي رمز للخروج من مجتمع مظلم، إلى مجتمع وليد، يمكن أن ينمو ويصبح مجتمعا حيا. والإنسان فيه بذرة الحياة، فيه فطرة الحياة، فيه مضغة الحياة، (إن في الجسد مضغة لو صلحت لصلح البدن كله، ألا وهي القلب)، والجسد وشهواته، ورغباته، وتثاقله إلى الأرض هو مجتمع مظلم، (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)، (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك). على الإنسان أن يبدأ هجرته، فيخرج بقلبه من هذا المجتمع المظلم، ولا يكون هذا الخروج إلا بالدعاء، وإلا بالاستغفار الدائم، وإلا بالصلاة والسلام على رسول الله، وإلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وإلا بإدراك ألا حول ولا قوة إلا بالله، وإلا بالإحساس بتفويض الإنسان أمره لله، وهذه هي العبادة. وما العبادة في الدين إلا هذا، وكل المناسك ما هي إلا تعبير عن هذا، فاجعل نيتك دائما في كل عبادة تقوم بها أنك تتجه إلى الله، وأنك تدعو الله، وأنك تستعين بالله، وأنك تستغفر الله، وأنك تطمع في رحمة الله. بهذا تؤدي العبادة، بهذا تقيم الصلاة، بهذا تصوم حقا، وبهذا تزكي حقا؛ لأنك في زكاتك تدعو الله أن تكون أداة خير وسلام ورحمة، وفي صومك تدعو الله ألا تستسلم لذاتك ونفسك الأمارة بالسوء. لو استطعت أن تتذكرالإتجاه إلى الله دائما فسيساعدك ذلك كثيرا في أن تتخطى صعاب الحياة. لا تتعجل، ولا تتصور صورة تريد أن تكون فيها لتشعر بأنك خرجت من عالمك المظلم، فسيظل عالمك المظلم معك دائما، ولكن عليك أن تذكر نفسك دائما بمعنى الحياة. فحتى حين هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، لم يتركه عالم الظلام، إنما ظل يحاول أن يقضي على هذه النقطة المضيئة، ولم يستسلم هذا العالم المظلم حتى بعد أن تم الفتح وانتشرت دعوة الإسلام، ظل هذا الظلام يلاحقها إلى يومنا هذا. وأورثنا هذا الظلام شكل دين فقد سماته الأساسية والحقية، واحتفظ بصورته الشكلية، واختفت منه كل المعاني الحقية التي ظلت باقية في قلوب العارفين الصادقين الداعين، الذين إلى قلوبهم يتجهون، ولعقولهم يعملون، والله يدعون، وعليه يتوكلون، وبرسوله يتصلون ويوصلون. وكما لم يفقد الظلام أمله في أن يقضي على نقطة النور، لم يفقد أهل النور أملهم في أن يضيئوها، وأن يشعلوها، وأن يكبروها، وأن يقولوها، وأن يدعوا بها، وأن يسمعوها للعالم أجمع، لا زالوا يفعلون ويعملون، والله يسألون، وعليه يتوكلون، وحول ذكره يجتمعون، فهذه قضيتهم، ستظل دائما هي قضيتهم. وهكذا هو حال الدنيا، وهكذا هو حال الإنسان. فإذا كنت من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي …”[الأنعام 52]، فاستمر على ذلك، ولا تيأس إذا وجدت بواقي ظلام فيك، وإنما اتجه إلى الله أكثر، واسأل الله أكثر، وادع الله أكثر، حتى إذا خرجت من هذه الأرض، خرجت وأنت مجاهد، خرجت وأنت ممن قيل فيهم: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون”…”

تعليق:

عن معنى الحياة وكيف يحيى الإنسان كان هذا الحديث

مفاهيم دالة :

٢٦٠ - تأمل في الآيتين (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون)، (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) الذكر هو ما يجعلكم تعقلون، هو ما يصلحكم، هو ما يطوركم، هو ما يجمعكم

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/١١/١٥

”… (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)، يذكرون دائما ولكن لا يتذكرون (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون). قد نفهم أن هذا الذكر هو ما جاء في عصر النبوة، وهذا صحيح، ولكن ما معنى هذه الآية لنا، ونحن نقرؤها اليوم، ونستمع إليها اليوم؟ ماذا يعني ذكر الله؟ ماذا يعني: “ذكر من ربهم”؟ إن الذكر هنا، هو العلم الدائم المتجدد (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتىٰ يتبين لهم أنه الحق .). فذكر الله لا ينتهي، وعلم الله لا ينتهي، وكلمات الله لا تنتهي، (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا). وحين ينبهنا الحق إلى ذلك: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)، “ذكركم” هنا، تحتاج أن نتوقف عندها، فحين تقرأ ماذا قال الذين يفسرون هذه الآية، سوف تجد أنهم فسروا “ذكركم” بمعان كثيرة، وكل أولها بصورة ما، فبعضهم قال حديثكم، وبعضهم قال شرفكم، وبعضهم قال دينكم. لنتدبرأولا “أفلا تعقلون”، كيف يعقل الإنسان؟ حين نقول أنه شيء معقول، هو أن يتوافق هذا الشيء مع ما نستحسنه، ومع المبادئ الأساسية التي نتفق عليها، والتي تؤدي إلى هذا الشيء المعقول، إنه الشيء الذي يتفق مع العلم والمعرفة، مع الإدراك والفهم، مع أسباب الحياة التي علمناها، مع القيم التي عشناها، مع الأفضل والأحسن الذي تعلمناه والذي هو موجود في وجداننا وفي ضمائرنا، ما تستريح له قلوبنا، وما تستريح له عقولنا. ولنتدبر بعد ذلك ماذا تعني: “فيه ذكركم” ؟ سوف نجد أن في الذكرما يجعلكم تعقلون، وهو ما تتعلمون، وهو ما ترتضون، وهو ما يصلحكم، هو ما يطوركم، هو ما يجمعكم، هو ما فطرناكم عليه وما أوجدناكم فيه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). أنظروا إلى داخلكم، ستجدون كتاب الله، “فيه ذكركم”، فيه حياتكم، فيه نجاتكم. إنا حين نتكلم عن كيف نحسن من خطابنا عن ديننا، ومن تعريفنا عن ديننا، لا يكون ذلك بترديد كلام السابقين فقط، فهناك كثير من هذا الكلام وهذا الحديث يعكس واقعا مختلفا، وعلما مرتبطا بأوانه وزمانه ومكانه، ونحن نعلم ما في التراث من أمور كثيرة دست واختلقت لأسباب سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وعرقية، ونفسية، وأشياء كثيرة أخرى. وقد بنى السابقون كثيرا من آرائهم على ما عرفوه في وقتهم، وما ظنوا فيه أنه من مصدر حقي من حديث لرسول الله أو من سيرته، أو من صحابته، وأحسنوا بصحابته الظن، مع أن الكثيرين يعلمون أو يفتون أن كل إنسان أيا كانت صلة قربه، أو صحابته، أو اتباعه، ما يقوله هو رأي يرد عليه، وكثير مما يردد اليوم هو ترديد لآراء، وليس لأن مصدره منزل أو مقدس، حتى التنزيل المقدس، فإنه يقرأ بقراءات كثيرة وبمفاهيم كثيرة، وهذا ليس شيئا سيئا، إنما هو يفتح المجال لأن نتفهم معنى: “كتابا فيه ذكركم”، فيه علمكم، فيه ما تستحسنون وما تحبون، وما تجدون فيه أنه الأفضل والأقوم والأحسن، فافهموه كذلك، واقرؤوه كذلك، لا تقرؤوه بعيدا عن ضمائركم، وعن قلوبكم، وعن عقولكم، اقرأوه قريبا من قلوبكم، ومن عقولكم، ومن ضمائركم، ومن أحاسيسكم. إذا قرأتم أي آية قد تظنون فيها أنها دعوة إلى كراهية، فلا تقرؤوها كذلك، وإنما اقرؤوها بما فيها من حب، ومعرفة، وإدراك، وتعاطف. حين يقرأ البعض: (ولن ترضىٰ عنك اليهود ولا النصارىٰ حتىٰ تتبع ملتهم..)، يقرؤوها قراءة كراهية، والدين لا يدعو إلى الكراهية، بل أن آيات كثيرة أخرى في أهل الكتاب تقول: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون..). بل أن الرسول حين دخل المدينة وكتب أول دستور في التاريخ، الذي يوضح الحقوق والواجبات، وكان في المدينة اليهود، عاملهم بأن: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا). فالمعاملة هي معاملة إنسان لإنسان، ليست هناك كراهية لأي كائن كان. إنما هذا واقع، الناس كذلك، يتعصبون لدينهم، ويتعصبون لظنهم بأن هذا هو الحق، فيدعون الكل لاتباع ملتهم، وأنت تدعو الناس أيضا أن يتبعوا ملتك. الدعوة هنا، يجب أن تكون تذكيرا بالذي هو أحسن والذي هو أفضل (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلىٰ كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله …). هم يدعون ويطلبون ويقولون، فليقولوا، ونحن نقول، وليكن هدفنا ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا. هل إذا استمعنا إلى مثل هذه الآية، نقتلهم، نحاربهم، أم أننا ندعوهم إلى الكلمة السواء، لا بأن يغيروا دينهم، أو ما هم عليه، وإنما إلىٰ كلمة سواء وهي ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، أي لا يفرض فريق على الفريق الآخر رأية، أو اعتقاده…”

تعليق:

هذا الحديث يتناول تدبر في الآية: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)

مفاهيم دالة :

٢٦١ - القرآن هو طاقة روحية تحملها الكلمات وتصل إلي الأفئدة الطاهرة، القابلة، المستقبلة

تاريخ الحديث: ٢٠١٩/١٢/٢٧

“…إن أي صفة تنسب إلي الله في أي آية مثل: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم …) فصفة الواحدية هي معني مجرد، و صفة “لا تأخذه سنة ولا نوم” هي معني مجرد وهكذا في كل الصفات الأخري التي تظهر في آيات أخري مثل سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد…)، فصفة الأحدية هي صفة مجردة لا يمكن أن تعرفها بأي شكل مقيد. والتجريد هو أنك تفهم الصفة كمعني محلها العقل الذي يتعامل مع التجريد دون تقييدها في شكل محدد. وإدراك المعاني المجردة هو أكبر من الحواس، لا يحتاج إلي أن تري، أو أن تسمع، أو أن تلمس، إنه ما فيك من طاقة أوجدها الله علي أن تفهم هذه الأمور. لذلك، حين اختلف السابقون حول طبيعة صفات الله وأسمائه من أنها قديمة بمعني أنها مع الله متحدة في كيان واحد، أو أنها منفصلة كمعني مخلوق. كل هذه االمحاولات لم تؤدي إلي شيء، وقد أثارها الإنسان بجهله بإخضاعه ما لا يري وما لا يستطيع أن يقيده لعقله المحدود، وظن بذلك أنه سيصل إلي شيء، أو أنه يجب أن يصل إلي شيء، والواقع أننا لن نصل إلي شيء محدد. فكما نقول دائما هي أمور غيبية عنا، لا نستطيع أن نحيط بها، إنما هي إشارات لنا حتي ترسخ في عقولنا كمعان مجردة، لا نحاول أن نجسدها، ولا نحاول أن نرسمها، ولا نحاول أن نحددها، ولا يجب أن نختلف عليها، أو نضع آراء عنها، أو أن نوجد نظريات تفسرها. إنها إشارات للغيب، وهي غيب. الكلمات: (… له ما في السماوات وما في الأرض …) إشارة إلي لا نهائية القدرة، ولا نهائية الإحاطة. واللا نهائية لا يمكن تفسيرها، ولا يمكن وصفها، فهي تحمل إسما يدل علي عدم التحديد، وعلي عدم القياس، والسماوات والأرض لا نهائيتان، إنهما الكون باتساعه، وقد أدركنا أن الكون يتسع بسرعة كبيرة جدا، وأن الله من وراء كل شيء، ودون كل شيء، وقبل أي شيء، وبعد أي شيء، ثم تحدثنا الآية عن علاقة الإنسان به (… من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه …)، وهنا نجد الإشارة، نجد التساؤل الذي وهو موجه لعقولنا لنتساءل “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه”؟ ترك هذا الأمر غير محسوم لنتفكر جميعا في هذا المعني، إنما أيا كان الذي يشفع عنده فلا يكون ذلك إلا بإذنه. وهذا يعلمنا أن هذا الغيب وراءنا هو دافع لنا، هو محيط بنا، هو موجود فينا بصورة لا نعلمها ولا ندركها. فإذا انفعلنا بوجودنا ومفهومنا، فنحن الذين نتجه إليه أن يشفع لنا، وإذا أدركنا بإيماننا به وبغيبه، نعلم أن ذلك لا يكون إلا بإذنه، وما هذا التوضيح في الآية لنا إلا لنتعلم ونحن نتجه إلي الله بالدعاء وبالشفاعة أن الله من ورائنا بإحاطته،، فإذا اتجهنا إليه بالدعاء حقا فهو إذنه، وهي قدرته، وهي رحمته، وهي شفاعته . االكلمات: (… يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم …) تعطي شعور بعلاقة قوية بهذا الغيب، مع عدم إحاطتنا به، أو إدراكنا له إدراكا حسيا، نعلم أنه معنا، وأقرب إلينا من حبل الوريد، ومعنا أينما كنا. ؤإننا مهما عرفنا، ومهما علمنا، فهذا بإذنه، وقدرته، وحكمته، ومشيئته (… لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء …) لأن وجودنا له قدرة، وله مدي لا نستطيع أن نتخطاه، وهذه طبيعتنا، وهذه خلقتنا، وهذه مشيئة الله فينا، ومشيئته فينا أيضا أن جعلنا باتجاهنا إليه نوسع من قدراتنا، ونزيد من إمكاناتنا، فجعل عندنا قدرة العلم والتعلم، والتعرف، والتأمل، والتدبر، وبكل هذا تتسع قدراتنا وعلمنا بما أودع فينا من قدرة علي ذلك. وتلخيص كل ذلك هو في الآية:( … وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم). حاول الناس قديما أن يفسروا “كرسيه”، ماذا يعني ذلك، وحاولوا أن يجسدوا هذا المعني، وحاول آخرون أن يطلقوا هذا المعني، ونحن نقول دائما، وكما قلنا اليوم، أن كل هذه المعاني التي تتصل بالخالق، تتصل بالغيب، لا نستطيع أن نضع لها صورة أو شكلا. إنها معان مجردة تحمل طاقة، وعلم، ومعرفة، كلها مجرد. والألفاظ المستخدمة هي وسيلة اتصال بيننا وبين هذا المصدر الحقي. لذلك، فإن القرآن ليس نثرا، ولا شعرا، ولا نصا، بقدر ما هو طاقة روحية تحملها الكلمات وتصل إلي الأفئدة الطاهرة، القابلة، المستقبلة، وهذا ما نحاول أن نفهمه أكثر، وأن نتدبر فيه أكثر. هذا هو طريق فهمنا وإدراكنا، قد نخطئ في ذلك، وقد نصيب، ولكن هذا ما نراه اليوم، وما نعتقد أنه الحال الوحيد الذي يمكن أن نكون فيه صادقين اليوم، وقد يكون هناك حال آخر لا نعرفه، ولا نعلمه…”

تعليق:

تأمل في آية الكرسي وبعض ما تحمله من معان مجردة

مفاهيم دالة :

٢٦٢ - أولو الألباب يناجون ربهم أنما خلق هو رسالة لهم، هو وجهه الذي به عليهم تجلى، هو اسمه الذي به يذكرون

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/١/٣

”… (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم)، آية تعبر عن حال لأولي الألباب، للذين يعملون عقولهم وقلوبهم، للذين يجاهدون بكل ما أعطاهم الله ليكونوا أفضل وأحسن وأقوم. إن بداية الآية بإن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، إشارة إلى مكان في هذا الكون الذي خلق فيه الإنسان. هذا المكان فيه رسائل لنا، فيه آيات لنا. فالمكان ليس جمادا، المكان حي، السماوات والأرض تتحدثان بما فيهما من حياة، ، إختلاف الليل والنهار آية فيها حديث للإنسان، فهنا الآيات ليست مجرد إعجاز، وإنما تدل أيضا على أنها آيات تتحدث، آيات تبلغ، آيات توجه. توجه من؟ ولمن؟ ومن الذي يتلقى توجيهها؟ الذي يتلقى توجيهها هم أولو الألباب، ومن هم أولو الألباب؟ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. فالحديث متصل، خلق السماوات والأرض يعلم، ويوجه، ويرشد أولي الألباب، ومن هم أولو الألباب؟ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. أما الذين ليس لهم عقول ولا قلوب، ليسوا من أولي الألباب، فهم لا يذكرون الله في أي حال من أحوالهم، إنما يذكرون وجودهم، يذكرون طلباتهم، يذكرون مادي وجودهم، إنشغلوا بظاهر حياتهم، نسوا أن لهم عقولا ليفعلوها، نسوا أن لهم قلوبا ليذكروا بها، نسوا أن يدعوا الله وأن يذكروا الله في كل حال من أحوالهم. أما أولو الألباب، فإنهم يذكرون الله في كل حال من أحوالهم، وفي كل لحظة من لحظات حياتهم، وفي كل لمحة من لمحات وجودهم، وفي كل أمر من أمور قيامهم، في كل حادثة تحدث لهم، فيتأملون ويتدبرون في كل ما حولهم، ويبحثون عن الحق فيه، وعن الخير فيه، مدركين أن كل ما يحدث هو رسالة لهم. ثم يدعون ربهم: “ربنا ما خلقت هذا باطلا”، إن ما خلقت هو رسالة لنا، هو توجيه لنا، هو وجهك الذي به علينا تجليت، هو اسمك الذي به نذكر، لقد أدركنا وعرفنا أنك ما خلقت هذا باطلا، وأدركنا وعرفنا أننا إن لم نعمل قلوبنا وعقولنا فلن نقرأ ما أرسلت لنا، ولن نعرف ما أردت بنا، نحن لا نريد أن نكون كذلك، وإنما نريد أن نكون من الذين يعملون قلوبهم وعقولهم، أن نكون من أولي الألباب حقا. ربنا وقد علمنا أن بنا ضعفا، وتخاذلا، وقلة حيلة، وغفلة، كما أن بنا سرك ونورك، بنورك وما أعطيتنا نعوذ بك من ظلام أنفسنا، “سبحانك فقنا عذاب النار”. والنار ألا نعمل ما أعطيتنا، وألا نفعل ما أوجدت فينا، وأن نغفل عن ذكرك، وعن التأمل فيما خلقتنا عليه، وفي آياتك التي أرسلت لنا. سبحانك وقد تجليت علينا وتعاليت، ظهرت لنا واختفيت، دنوت منا وعلوت، ظهرت لنا وبطنت، نراك في كل شيء، وأنت وراء كل شيء، سبحانك تحمل كل هذه المعاني، لا نستطيع أن نحكم على أنفسنا اليوم كيف نحن ومن نحن، فأنت أعلم بنا منا، ونحن نفتقر إليك، ونتجه إليك، ونطمع في رحمتك، “فقنا عذاب النار”. إنهم يقرون قانون الكون يوم يقولون :“ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته”، نحن نعلم أن هناك من خلقك من كان حالهم فيه غفلة عما أوجدت فيهم، ونحن نعلم أنك وراء كل شيء، وأن هذا هو قانونك وحكمتك، نعلم أن هؤلاء هم من أخزيتهم بقانونك. نحن ـ بمفهومنا ـ وقد علمتنا أن نسأل بما نرى أنه الخير وأنه الحق، وهذا ما نرى اليوم، نرى أننا نستعين بك حتى نفعل ما أعطيتنا، فلا نكون من الذين أخزيتهم، إن خشيتنا لك، وتأدبنا معك، لا نستطيع أن نحكم على أنفسنا اليوم، فربما نكون فيمن أخزيتهم، فنحن لا نعلم من نحن، وعلى ماذا نحن، ربنا نحن نعلم إنك من تدخل النار فقد أخزيته، ولذا فإنا ندعوك أن قنا عذاب النار. نعلم أن رحمتك قد وسعت كل شيء، وأن كل ما يحدث وما سيحدث، وراءه رحمتك، وأن “من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”، وهذا أيضا رحمتك، فرحمتك ليست ضد عذابك؛ لأن رحمتك أكبر من كل شيء؛ ولأن عذابك أكبر أيضا من أن نحدده، أو أن نعرفه، فصفاتك متعالية لا ندركها ولا نحدها. والتعبير أن: “وما للظالمين من أنصار”، هو تعبير عن تقديرنا، وإدراكنا لأنك وراء كل شيء، وليس دونك شيء.إنه حال، أن يوصف إنسان أو كائن بأنه من الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وظلموا من حولهم، هؤلاء فقدوا ما فيهم من حياة، فلا أنصار لهم، ولا ناصر لهم، لا لشيء إلا لأنهم فقدوا حياتهم (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). إن الذي تخلى عن معنى الحياة فيه بظلمه لنفسه وظلمه للناس، لا حياة له، ولا بقاء له. هنا تذكر الآيات على لسان الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، تذكر على ألسنتهم ما يفهمونه وما يدركونه، وهذا أسلوب قرآني. في كثير من الأحيان يكون المتحدث في الآية هو الإنسان، ويستمر حديث الإنسان شارحا حاله، شارحا كيف أصبح من الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأنه أصبح من الذين يسمعون منادي الإيمان: “ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا”، إننا وصلنا إلى هذا، إلى خشيتك، وإلى ذكرك، وإلى إدراك أن وجودنا مستمر، وأن كل ما في الكون هو توجيه وآيات لنا، بأننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان، سمعنا مناديك، سمعنا رسولك، سمعنا ما أوجدت فينا من حياة، سمعناه يقول لنا إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، فكونوا من أولي الألباب، فكنا، فآمنا. سمعنا، تعني أننا عرضنا وجودنا لكل هذا القول، لكل هذا الفضل، لكل هذه الآيات، لكل هذه الرحمات، لكل هذه الأنوار، لكل هذه الفيوضات، فنحن لم نصبح من الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم إلا بأن سمعنا مناديا ينادي للإيمان فآمنا. هكذا يستمر دعاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، يستمر حديث أولي الألباب: “ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار” ، “ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد”. إنه إقرار وفهم في قانون الحياة، وما كان وعد رسل الله إلا الحياة، إلا أن نكون أحياء عند ربنا نرزق، ونحن ندعو بذلك، فقد أحببنا ذلك يوم سمعناه، ويوم أدركناه، ويوم صدقناه، ويوم آمنا به، ويوم فعلنا وجودنا لنكونه، ويوم دعوناك لنقومه. ولا زلنا ندعو أن آتنا ما وعدتنا على رسلك، فنحن نعلم أنك ستؤتينا، ، وإن كنا قد فهمنا خطأ حالا نطلبه مما وعدنا رسلك، فآتنا ما وعدتنا على رسلك، فقد نكون لم نفهم ما وعدونا، ونحن ندرك أن داعيك، وأن رسولك يوم وعدنا، وعدنا وعد الحق، وعد قيام لا نعلمه، ولا نستطيع أن نتصوره، فآتنا ما وعدتنا على رسلك. نحن غير متمسكين بأي صورة نكون قد تصورناها، أو نكون قد رسمناها، أو نكون قد تخيلناها، إنما نطلب ونقر في طلبنا أن آتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تجعلنا من الذين أخزيتهم، فنحن ندعو دائما بذلك خشية لك، وإكبارا لك، وإدراكا أننا مهما علمنا فنحن مقصرون، ونحن غافلون، ونحن قد نكون غير مدركين. فلا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد؛ لأننا عرفنا رحمتك، وعرفنا كرمك وجودك ونعمتك، فنسألك دائما باسمك الرحمن الرحيم، باسمك الغفور التواب، أن تتوب علينا، وأن تساعدنا، وأن تأخذ بأيدينا حتى نكون حقا عبادا لك خالصين…”

تعليق:

تأمل في آخر آيات سورة آل عمران والتي تبدأ بالآية : ” إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب …”

مفاهيم دالة :

٢٦٣ - منهج التعامل مع الاختلاف في فهم ما جاء في التراث وربطه بمفهوم في الآيات التي تتحدث عن الكلمة السواء والاعتصام بحبل الله

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/١/١٧

”… إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من روايات لأحاديث، ولأفعال، ولأوامر ونواهي، ورجعنا إلى مصادر هذه الأمور كلها والروايات كلها، فسوف نجد آراء مختلفة، وسوف نجد أحاديث قد لا يقبلها العقل، أو نجد فيها تناقضا مع مصادر أخرى. وقد حدث هذا في جميع الرسالات السماوية، وفي كل الكتب التي تلقاها الرسل والأنبياء، بل أن هذا يحدث أيضا مع ما وصلنا عن الأولياء وعباد الله الصالحين، فهناك روايات متعددة لأحوال، ولكرامات، ولأقوال لا نستطيع أن نجزم بصحتها أو خطئها، وكذلك في تفسير الآيات، فهناك تفاسير مختلفة. ما هو موقفنا ونحن نرى كل ذلك؟ ماذا نفعل مع هذا التضارب والاختلاف الذي نجده في كثير من الأمور؟ حاول الذين يتصدون لمثل هذه الأمور أن يوفقوا بقدر استطاعتهم، فسكتوا عن أمور حتى لا تتعارض مع ما يقولون في أمور أخرى، وحاول البعض الآخر أن يرفض تماما كل ما لا يقبله، وحاول آخرون أن يؤولوا نصوصا لتتواءم مع أفكارهم، وهذه كلها محاولات يحاولها الإنسان ليعيش وسط هذا التضارب الذي يحدث في بعض القضايا. بل أنه في كثير من الأمور التي يتفق الجميع عليها كمجتمعات لها خلفية إسلامية، إلا أن ما يتفقون عليه لا يقبل في مجتمعات أخرى، بل أنه في المجتمعات الإسلامية أيضا هناك من يرفض هذا الشكل النمطي للدين، وليس عنده بديل إلا أن يرفض الدين كلية. لذلك، حاولنا ونحاول أن نقدم رؤية للدين نستطيع أن نجعلها تحيط بالجميع. هذه الرؤية تتوافق مع العقل، وتتوافق مع فطرة الإنسان، وتتوافق مع واقع الحياة وواقع المجتمع، رؤية لا ترفض أحدا، وإنما تقبل الجميع. وهذه قراءتنا للإسلام حقا (أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر)، أرسلت للكافة، (لا فضل لعربي على أعجمي، إلا بالتقوى)، إلا بالعمل الصالح، إلا بالمعاملة الصادقة، الجميع سواسية، والله أكبر عن أي صورة أو شكل (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله). هذه الدعوة موجهة للجميع، موجهة لكل مذهب في كل دين، ليس فقط لمن نقول أنهم يختلفون معنا في الدين، فالدين الواحد يختلف متابعوه بينهم وبين بعضهم في قضايا وفي أمور، وكل متمسك بتفسيره وبرؤيته، هذه الدعوة موجهة إليهم أيضا، موجهة إليهم من قرآنهم، ألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، والله أكبر عن أي صورة، وعن أي شكل. لذا نقول دائما أنه لا يوجد إنسان يستطيع أن يقول أن هذا كلام الله ويكون هو مرددا له، أو هذا حكم الله ويكون هو الذي أنشأه، حتى ولو كانت مرجعيته آية، أو حديثا، أو أي رأي ارتآه السلف، كلها آراء، وكلها مفاهيم، وكلها تفاسير، وكلها تأويل.والدين هو ما يقبله الإنسان ويستريح له ويستحسنه، والذي لا تعقله ولا تقبله ربما أنك لا تفهمه، فاتركه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)، واتجه إلى الله بالدعاء أن يعلمك ما لم تعلم، وأن يوضح لك ما لا تفهم، وربما تجد تعليلا وفهما يختلف عما يقوله الآخرون. الإنسان غير مطالب بأن يقوم فيما لا يفهم، وهو مطالب بأن يحاول أن يفهم، وأن يعرف، وأن يميز، وأن يرجح أمرا على أمر، وكل إنسان مسئول، والدين يخاطب كل إنسان، وما يفهمه الإنسان ويطبقه على نفسه هو صالح له، ولا يجب عليه أن يحاول أن يفرضه على غيره. فالدين مسئولية فردية بالنسبة للإنسان (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، مسئوليتك أن تذكر بما تعرف، لا أن تفرض أمرا، أو حكما، أو فهما على الآخرين. (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، وهذا التبيان هو أمر نسبي، يمكنك في تذكيرك أن توضحه، من يقبل يقبل، ومن يرفض يرفض (فذكر إن نفعت الذكرى، سيذكر من يخشى، ويتجنبها الأشقى). كل إنسان له قدراته وإمكاناته، قد يستريح إنسان في الفهم النمطي ويقوم فيه، وقد لا يستريح إنسان لذلك. فلذلك، نحن نحاول دائما أن نوضح هذه المعاني، وأن نوضح رؤى مختلفة للقضايا النمطية، وللمناسك الشكلية، استجابة لتساؤلات الإنسان عن أهميتها وعن معانيها. نوضح ذلك ولا نجبر أحدا أن يفكر كذلك، فكرك ملكك، إنما قد يساعد هذا التوضيح البعض على أن يكونوا أكثر تقبلا لهذه الأمور المنسكية التي تعبر عن قضايا حقية. وهذا أسلوب أيضا للإجابة على تساؤلات الكثيرين الذين يتساؤلون عن هذه الأمور النمطية، الشكلية، الحرفية. ودين الحق يدعونا لنجتمع على ذلك (اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وحبل الله هو الكلمة السواء، أن نكبر الله عن أي شكل أو صورة، وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، وأن الذي يريد أن يتخذ بعضه بعضا ربا وأربابا من دون الله، بمعنى أنه يرى في كلامهم الحكم الأعلى الذي لا يقبل النقد؛ لأنه لو أضاف أنهم أرباب بالله، فإنه يعرض كلامهم على ما هو أعلى، وما هو مختلف عنهم، ويعلم أن الحكم في النهاية لله بالمعنى المطلق، (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون). فهنا، قد تسمع إلى رأي ممن تظنه أكثر علما منك، ولكن هذا لا يعني أنه طالما هو أكثر علما منك، أن كلامه هو الحق المطلق، لا زال هناك أعلى، وهذا هو معنى لا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله. فالدعوة إلى التجمع، وإلى التحاب، وإلى التآلف، وإلى طلب المعرفة، هو الأساس. وهذا هو الذي يجعلكم إخوانا، لأنكم إن اختلفتم، وتمسك كل برأيه ورفض الآخر، فالتعبير القرآني : (كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) يعبر عن هذا الحال. والاعتصام بحبل الله لا يعني أن نقول نفس الكلام، أو نفهم نفس الفهم، أو نقوم نفس الحال، وإنما أن نقبل بعضنا بعضا، وأن نسمع إلى بعضنا، وأن نتواصى بالحق بيننا، وليس هذا لفئة محددة من البشر، وإنما هو لكل البشر، في كل دياناتهم، وفي كل معتقداتهم. وهكذا يبين الله لنا آياته في معنى التآلف، وفي معنى المحبة، وفي معنى الاعتصام بحبله، لعلنا نهتدي إلى الطريق القويم. ولننظر إلى مجتمعاتنا اليوم وهي تتناحر، وتتنافر، وتتصارع، وتتحارب، ما هو حالهم، وما هو مآلهم؟ وكيف حال المجتمعات التي تتآلف بينها، وتحترم أفرادها، وتعيش في سلام، وفي توافق؟ من هو الأفضل حالا فيما نحكم به عليه من واقعنا، ومن حياتنا الأرضية، ومن نظرتنا المادية لحالنا، ولأحوال مجتمعاتنا؟..”

تعليق:

حديث عن منهج التعامل مع الإختلاف في فهم ما جاء في التراث وربطه بمفهوم في الآيات التي تتحدث عن الكلمة السواء والإعتصام بحبل الله.

مفاهيم دالة :

٢٦٤ - كل إنسان يأخذ من كتاب الله بقدر سعته ليتذاكر بما تلقاه بما هو له أهل مع إخوانه بما تلقوه بما هم له أهل

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/١/٣١

”… إن آيات الحق تخاطب كل إنسان، وكل إنسان قادر أن يتقبل ما تحمله هذه الآيات من معان ومن طاقة روحية تحيي قلبه، وتزكي نفسه، وتطهر روحه. كتاب الله هداية لكل إنسان، كل إنسان يأخذ منه بقدر سعته، وبقدر استطاعته، كل يأخذ بما هو له أهل، ليتذاكر بما تلقاه مع إخوانه بما تلقوه، بما هم له أهل ) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله(، فكل يدعو إلى الله بما تعلم، وبما علم، الذين أدركوا قانون الحياة، وعلموا أن الله قد أودع فيهم أمانة الحياة، فجعلهم يعرفون ويفرقون بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، وبين الحياة والموت، فقالوا إننا من المسلمين (…وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين). فالإسلام ليس مجرد لفظ، أو كلمة نطلقها على أسلوب حياة فقط، وإنما هو منهج كامل لكل حياة الإنسان في أبعادها المختلفة. في بعدها الداخلي في تعامله مع نفسه، وفي بعدها الخارجي في تعامله مع الناس، عرف الحسنة والسيئة، عرف الحق والباطل، عرف النور والظلام (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة). وهذا موجود في كل إنسان، موجود فيه بالفطرة ، يعرف ماهو أحسن (ادفع بالتي هي أحسن)، وهنا نتعلم أدب الحوار، وأدب التواصي، فالأحسن هو ما نستحسنه جميعا، وما نتعارف عليه جميعا. فإذا ذكر إنسان إنسانا بما هو أحسن فإن ذلك يقرب بينهما (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). هذا أسلوب عام في التواصي، وفي الحوار، وفي التذكير، في كل قضايا الحياة، في مفهومك في آيات الله، آيات الله التي توجهك في جميع مناحي الحياة، فيما يخصك كإنسان، وفيما يخص مجتمعك. وكل فرد يفهم الآيات المتشابهات التي يقرؤها بما يراه وبما يستحسنه، وهذه الآيات موجودة ليقرأها الإنسان في دوام، وهي تحمل الأحسن للإنسان في كل بيئة، وفي كل عصر، وفي كل حال، فإذا أراد البعض أن يحصروا معانيها في معنى واحد، فهم بذلك يحدون انتشارها، واتساعها للناس جميعا. ولهذا نفهم “ادفع بالتي هي أحسن” أن لها علاقة بالمجتمع، وبالبيئة، وبالحال الذي يعيشه جماعة ما من الناس تحاول أن تدفع بما هو أحسن. هذا الأحسن يحتاج إلى تدريب للإنسان، تدريب يجعله قابلا لكل صورة فيها الأحسن؛ لأن طبيعة النفس البشرية تريد أن تحدد صورة واحدة، ولا تريد أن تتعامل مع مفاهيم كثيرة. هذا التدريب يحتاج إلى الصبر الذي يعده لنفحة من الله، ولاصطفاء من الله (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم). إننا نرى اليوم أن كل من فهم أمرا، ظن أنه الحق المطلق، وهذه طبيعة النفس البشرية، لذلك فإن تقبل كل صورة هو نتاج تفكر، وتأمل، وتدبر، وذكر، ودعاء، وممارسة، وتدريب، حتى يصبح الإنسان كذلك. كل صورة فيها شيء من الحق، فكل جماعة، وكل من نقول أنهم على دين ما، فيهم شيء من الحق والحقيقة. حتى الذين يؤمنون بالمادة عندهم شيء من الحقيقة، إذ أنهم لا يجرون وراء الخيال، ووراء الوهم والظن، وإنما يطبقون قانون العلم المشهود، والواقع المحسوس، وهذا حق وواجب على كل إنسان، فإذا جادل أحدهم، ودفع بهذا مع إنسان آخر لا يؤمن بالعلم المادي، أو بأن يحترم الإنسان القانون المشهود، فتكون دعوته أفضل من هذا الذي يقول أنه مؤمن بالغيب، وينكر الشهادة. وإذا دفع الذي يؤمن بالغيب بأن هناك ما لا ندركه، مع إنسان لا يؤمن بالغيب ويؤمن بأن كل شيء مشهود، كانت دعوة الذي يؤمن بالغيب هي الأحسن؛ لأنها حقيقة، فنحن جميعا لنا جانب غيبي لا ندركه، وكل الإيمان بالله واليوم الآخر هو إيمان غيبي. لذلك، فليس كل إنسان هو خير أو شر، هو حق أو باطل، هو نور أو ظلام، ولكن في كل إنسان نور، وفي كل إنسان ظلام، والإنسان في جهاده مع نفسه يبحث عن أن يكون أكثر نورا وأقل ظلاما…”

تعليق:

تفكر وتدبر في الثلاث آيات التي تبدء بالآية ) ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله …)

مفاهيم دالة :

٢٦٥ - الإنسان مخاطب من الحق في كل حادثة، في كل ظاهرة، في كل ما يتجلى له من الغيب، وفي كل ما يدركه من الشهادة، فوجب على الإنسان أن يتأمل في كل ما يتلقاه

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/٢/١٤

”… إن الإنسان على هذه الأرض مخاطب من الحق في كل لحظة وحين، في كل تعامل، في كل عمل، في كل حادثة، في كل ظاهرة، في كل ما يتجلى له من الغيب، وفي كل ما يدركه من الشهادة، فوجب على الإنسان أن يتقبل، وأن يتأمل في كل ما يتلقاه. هناك ظواهر في الحياة الدنيا لا يستطيع الإنسان أن يفسرها بمعرفته الأرضية، ولا بعلومه الدنيوية، عليه أن يتأملها ويتدبرها لتكون عنوانا وتعبيرا عما وراء الظاهر، وما فوق الطبيعة، فيتعلم أن هناك أمورا تظهر ولا تعليل لها، على الأقل في لحظة حدوثها، وفي لحظة مشاهدته لها. فالغيب وهو غيب مكاني، هو أيضا غيب زماني؛ لأن أمورا كثيرة كانت غيبا عن الإنسان في لحظة ما، ثم تبين له ما وراءها في لحظة تالية، وهناك أمور منذ الزمن البعيد، ومنذ تاريخ البشر لا زالت غيبا عن الإنسان. هذه الأمور الغيبية، وهذه الحقائق الكونية التي وراء الطبيعة تتجلى للإنسان في صور متعددة، ليتذكر دائما أنه دون الطبيعة، وأنه تحت الطبيعة، وأن هناك الكثير الذي لا يعلمه. وهناك الكثير أيضا من الظواهر الكونية، والتي يعرف الإنسان عن أسبابها ومسبباتها، ولكن أيضا ينتهي به الحال أن يقف عند سبب لا يعرف ما وراءه، ولذلك فإن مقولة: (ويطول بنا إسناد عنعنة حتى إلى الذات) هي تعبير عن ذلك. والمقصود هنا، أنك لو بحثت وراء أي أمر، لوجدت أمرا، ولو بحثت وراء هذا الأمر، لوجدت أمرا آخر، وهكذا. إننا نشاهد كل يوم على هذه الأرض ظواهر جديدة، وهي ليست جديدة بقانون الحياة، ولكنها جديدة بالنسبة لنا، فقد تكون موجودة في قديم، ولكن لم تسجل، ولم تنقل إلينا، فنراها مرة أخرى في حياتنا التي نعيشها. كل هذه الظواهر التي لا تعليل لها من ناحية السبب والمسبب في وجودنا الأرضي لها سبب ولها مسبب. الإنسان يحاول منذ القدم أن يحلل أسباب هذه الظواهر، وأن يجري التجارب ليعرف ما هو هذا المسبب. هناك ظواهر أخرى لا يستطيع الإنسان أن يفعل ذلك. والإنسان أيضا هو كيان من وجود مادي، جسده خاضع لهذه القوانين الأرضية، بينما روحه لا تخضع لهذه القوانين. كل المعاملات، وكل العبادات الروحية تختص بهذا الوجود الروحي في الإنسان، فالذكر هو علاج لهذا الوجود الروحي، وكل العبادات هي إحياء له. وكما أن الإنسان يحتاج لحياة وجوده المادي لطعام، وشراب، ودواء، وممارسات رياضية دائمة للحفاظ على هذا الوجود المادي ـ فهو في حاجة إلى غذاء روحي، وإلى ممارسات روحية تساعد وجوده الروحي على النماء. هذه الممارسات الروحية، هي جزء أساسي في المفهوم الروحي ككل. نستطيع أيضا أن نقول أن كل الأمور الغيبية في حياة الإنسان هي أمور روحية، وأن كل المعاملات المشهودة في حياة الإنسان هي معاملات سلوكية، والدين قائم على التعاملات الروحية، وعلى التعاملات المادية السلوكية. فالذكر أساسه معاملات روحية، قد يكون لها انعكاس مادي، أو أن يكون لها علاقة بوجود، أو تعامل، أو حال مادي. فالصوم مثلا هو تعرض الوجود الروحي للإنسان لنفحات الله ، وفي نفس الوقت يساهم فيه الجسد بامتناعه عن شهواته، وعن طعامه وشرابه، فيكون للجسد دور، إلا أن الصوم فوق الجوع والعطش؛ لأنه مرتبط بفهم روحي في معنى وجود الإنسان المعنوي، وتعرضه لنفحات الله الروحية. والصلاة كذلك فيها شق مادي يقوم به الجسد، ولكن هذا الشق ليس الأساس، وليس الهدف، إنما هو تعبير عن معنى أعمق. وتعاملات الإنسان المادية مع الآخرين هي لها شق مادي أساسي، فهي تقوم على التعامل في المادة، ولكن هناك الجانب الروحي وراءها، المراقب للمعاملة، وأن يكون الإنسان عادلا في معاملته بينه وبين نفسه، فإذا فقد الإنسان هذه الرقابة الداخلية، يكون في معنى المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. هذا التداخل بين ما هو روحي وما هو مادي، قائم في كيان الإنسان الذي هو مكون روحي، ومكون مادي. كل المفاهيم، وكل المذاهب، وكل الأديان، وكل الفلسفات التي تتناول قضية الإنسان، فيها الشق الروحي، وفيها الشق المادي. ما يفرق بين الشقين هو أن الشق الروحي يعتمد على الإيمان بالغيب في الأساس، يصل الإنسان له بعقله المجرد. أما المعاملات والعبادات في ظاهرها يقوم بها الجسد في أفعال لها صورة مادية، مرئية، دنيوية، ولكن وراءها إيمانا بالغيب. لذلك نجد الكثير من الآيات تتحدث عن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فالإيمان أساسي لإدراك علاقة الإنسان بالغيب، والتطبيق في الدنيا أساسي؛ لأنه تعبير عن هذا الإيمان، هذا هو القانون. فإذا أدركنا هذا المعنى على أي مستوى كان، فإننا نكون بذلك مسلمين، والمسلم هو من عرف كيف يسلك في هذه الحياة طلبا للأعلى، فسلم الناس من لسانه ويده؛ لأنه عرف أنه يتعامل مع الله في كل معاملة. والإسلام الحقيقي أساسه الإيمان، والإسلام الشكلي لا يوجد به إيمان (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، فالإيمان والإسلام في حقيقتهما متداخلان، ولذلك فإن علينا أن نفرق بين استخدام كلمة الإسلام في سياقاتها المختلفة…”

تعليق:

عن العلاقة بين الوجود الروحي والوجود المادي للإنسان كان هذا الحديث

مفاهيم دالة :

٢٦٦ - كل ما لا تعلمه هو غيب، وما تعلمه اليوم كان غيبا عليك في الأمس، وما تجهله اليوم ربما تعلمه غدا، وربما لن تعلمه وأنت على هذه الأرض، وطرق أبواب السماء هو دعاء الغيب

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/٢/٢٨

”… حين نقرأ هذه الآيات: “والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب”، قد يقرؤها إنسان، أو مفسر، أو عالم على أنها مجرد قسم بالسماء وما فيها من نجوم، ويمكن ونحن نتأملها أن نفهم فهما آخر، فالسماء هي رمز للغيب، رمز لما وراء الطبيعة ، والإنسان يحاول دائما أن يوصل بالغيب, بل أنه يحاول ذلك) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان(. وهنا أيضا السماوات ليست مجرد بعد مكاني، فنحن نعلم الآن أن السماوات تتسع، والكون يتسع، فالتأمل هنا أن هذه السماوات ترمز إلى الغيب أيضا بمراحله، وبمعارجه، وبمستوياته. كل ما لا تعلمه هو غيب، وما تعلمه اليوم كان غيبا عليك في الأمس، وما تجهله اليوم ربما تعلمه غدا، وربما لن تعلمه وأنت على هذه الأرض. إنما أنت تطرق أبواب السماء، والطرق هنا هو دعاء، إنك تدعو الغيب، وكل دعاء للإنسان هو دعاء للغيب، بل أنك تدعو بما فيك من سر، وبما فيك من حياة، وبما فيك من قوة، وبما فيك من فهم، وفكر، وإدراك أنه ليس لك إلا السماء، ليس لك إلا أن تتجه إلى الغيب، ليس لك إلا أن تطرق أبواب الغيب. وأنت بذلك نجم، أنت بذلك نور، ما فيك من نور، ما فيك من نور يطرق أبواب السماء، وهذه هي البداية، وستظل دائما هذه هي البداية، وستظل دائما أنت في بداية، فطريق الحق كله بدايات؛ لأنك كلما خطوت خطوة تبدأ خطوة أخرى، كما هو حالك على هذه الأرض، كلما تعلمت علما يكون بداية لعلم آخر، لعلم أعمق، وكلما أدركت أمرا كلما بدأت في محاولة معرفة ما هو أعلى. هكذا بدايات دائمة، وهذه البدايات هي بداية دورات، فأنت تتجه إلى الغيب بما فيك من نور لتأخذ قوة تستطيع بها أن تنظر إلى حالك وقيامك (فلينظر الإنسان مم خلق)، هذه مرحلة أخرى بعد طرق الأبواب، بعد الدعاء، أن تنظر إلى كيف خلقت، تنظر إلى وجودك، تنظر إلى بداياتك لوجودك في هذا الكوكب، وكيف أصبحت اليوم (خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب) كنت نطفة صغيرة نمت وكبرت، وخرجت إلى هذا الكون صغيرا، وكبرت عليه، وأصبحت على ما أنت عليه. حياتك على هذه الأرض هي دورة في دورات، تخرج من هذه الأرض لتدخل في دورة أخرى (إنه على رجعه لقادر). هذه الكلمات: (والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع)، ممكن أن تفسر بصور كثيرة فقد يظن ظان أن هذا قسم آخر بماء منهمر من السماء، وأرض تتصدع لتتقبل هذا الماء. وقد يتأمل فيه متأمل على أنه قيام الإنسان في حال آخر، في دورة أخرى، في عالم آخر، في حياة أخرى، في صورة أخرى (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك). هذه المعاني هي “قول فصل، وما هو بالهزل”، ولكن كثيرا من الناس لا يعلمون، وفي المعاني لا يتأملون، وفي الأعماق لا يتفكرون، وبهذا فهم يكيدون، لا يريدون لإنسان أن يتعمق، وأن يتفكر، وأن يتأمل في قول الحق. (يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، (إن الله بالغ أمره)، أمره سيصل لمن يتعمق ويتأمل، سيصل رغم ما يكيدون، ما يشوشون، ما يفسرون، ما يحصرون، سوف يتلقى هذا العلم من هو له أهل (الله متم نوره ولو كره الكافرون). فيكيد الله هنا، هو تدبير الله، هو أمر الله البالغ، الواصل، الواقع، إنه القانون الذي قرأه الكثيرون في سابق، ويقرؤه الكثيرون في حاضر، وسيقرؤه الكثيرون في قادم، فطرة الله، وصبغة الله، وقانون الله (إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا). هذه الآيات تحدثنا عن البدايات، وتحدثنا عن النهايات، وما قلنا أيضا بالنسبة للبدايات هو للنهايات، فالنهايات لا نهاية لها، وكل نهاية دورة هي بداية لدورة، وهكذا في دورات متلاحقة. حياة الإنسان هي دورة لها هدف عليه أن يبحث عنه باتجاهه إلى الله، ودعائه لله، وبطرق أبواب السماء، بما فيه من نور، ليعرف هذا الهدف، وليعرف طريقا إليه. وسوف يجد الإنسان أن الهدف المباشر الذي يجب أن يصل إليه كل بدعائه ورجائه وتأمله، هو أن يعمل ما أعطاه الله من قوة ومن قدرة لخيره ولخير الناس، وأن يحاول دائما أن يجدد إيمانه بهدفه، بالتأمل المستمر والتدبر في آيات الله، فهدف الإنسان ينمو مع الوقت، ويتغير مع الوقت أيضا من هدف لهدف. وهذا واقع الإنسان في حياته الأرضية، فأهدافه المادية تتغير يوما بعد يوم، وآماله تتغير يوما بعد يوم، وهذه الأهداف المادية مرتبطة بأهدافه الروحية، فهو يدرك أن كل هدف مادي له شق روحي، ولهذا لا نفصل بين الدنيا والدين، بين الواقع المعاش والآخرة، إنهما مرتبطان. وهذا ما نتحدث فيه كثيرا من معنى التعامل مع الله، فإذا تعامل الإنسان مع الله في كل معاملاته الأرضية فهو في دعاء مستمر، وهو في كسب لله مستمر، يساعده على أن تتضح أهدافه أكثر، فيكون لحياته معنى يحاول أن يحققه. وهذا أمر ضروري لاستمرار الحياة على هذه الأرض، والذي يفقد هذا الحافز يدخل في مرحلة وفي حال من الظلام لا يعرف له طريقا، وقد لا يتحمل أن يعيش هذه الحياة، وهذا ما يدفع البعض إلى أن ينهوا حياتهم الأرضية بأنفسهم. فلذلك لا يجب أن نفصل بين حياتنا المادية وبين حياتنا الروحية؛ لأنهما مرتبطتان، وبهذا نكمل حياتنا إلى أن يتوفانا الله، فنخرج من هذه الأرض. ولذلك نجد الرسالة المحمدية أتدعو أن يمارس الإنسان حياته المادية بكل ما فيها محتسبا عند الله، متعاملا مع الله، لا تشجع الإنسان أن يهرب من هذه الدنيا، وإنما تشجعه أن يكسب من هذه الدنيا. وكما ـ أيضا ـ أوضحنا سابقا، أن هذا لا يعني أن الذين تركوا الدنيا بظاهرها على باطل كما فعل بعض المتصوفة، أو بعض الذين زهدوا في هذه الدنيا، فهم وجدوا أنفسهم ليس لديهم ما يقدمون لهذه الدنيا، فوجدوا أن أفضل ما يقدمونه هو أن يتجهوا إلى الله بالدعاء. لذلك، فنحن نقول دائما أن نسبة انشغال الإنسان بالدنيا، وانشغاله بالذكر القلبي مع عدم تعارضهما، إنما هو ظاهر في الفعل وليس في باطنه، فكل تعامل مع الله، ولكنها وسيلة ووسيلة، وطريقة وطريقة، النسبة بينهما ترجع إلى تقدير الإنسان، وإلى حكم الإنسان، ولا تعني تفضيل وسيلة عن الأخرى، وإنما هي قدرة من الإنسان على أن يذكر بقلبه، أو أن يعمل بجسده. والتوازن، وعدم التفريط في أيهما هو أمر مطلوب، فإذا كان الإنسان يعمل بجسده فليكن قلبه معه، قلبه يراقبه، قلبه يحثه على أن يتقن عمله، وأن يتعامل مع الله في عمله، وإذا كان الإنسان يذكر بقلبه فربما أرشده قلبه إلى أنه يستطيع بجسده أن يقدم خدمة للبشرية، فيحول مجهوده إلى تحقيق ما أوحى قلبه له به. وهكذا يتناغم الإنسان بأبعاضه وبمكوناته في تناغم، وفي سلام ليحقق هدفه على هذه الأرض.

تعليق:

تأمل في سورة الطارق وعلاقتها بسلوك الإنسان المادي والروحي ودورات الإنسان المتلاحقة.

مفاهيم دالة :

٢٦٧ - حديث الحق يخاطبكم ليبين لكم قانون الحياة، وليجيب على تساؤلاتكم وعلى ما فيه تختلفون

تاريخ الحديث: ٢٠٢٠/٣/٦

”… يا من تسألون الله وتتجهون إلى الله، حديث الحق يخاطبكم ليبين لكم قانون الحياة، وليجيب على تساؤلاتكم وعلى ما فيه تختلفون. فإذا تساءلتم عن ماهية وجودكم، يجيبكم: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وإذا تساءلتم عن كيف تحاورون وتخاطبون من يختلف معكم، أجابكم: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله). وإذا تساءلتم وماذا نفعل إن اختلف معنا الآخرون، واتخذوا أربابا من دون الله، فيقول لكم: (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون). وإذا تساءلتم عن علاقة إرادتكم بإرادة الله، فيقول لكم: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، (قل كل من عند الله). وإذا تساءلتم عن الذين يدعونكم إلى طريق ما، ثم اكتشفتم أن هذا الطريق لا يؤدي إلى الحق، وأردتم أن تتبرؤوا من ذلك بعلة أنكم اتبعتم من دعوكم، يخاطبكم ويعلمكم: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا)، ويعلمكم أن الشيطان إذا دعاكم فسوف يتبرأ منكم أيضا بقوله: (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). وإذا تساءلتم هل نستوي مع الذين يعلمون أكثر منا، نحن جاهلون ولا نعلم الكثير، ماذا نفعل؟ فيجيبكم: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). وإذا تساءلتم لقد أسرفنا في أمر أنفسنا، فماذا نفعل، إننا لا نستطيع أن نخرج من هذا الظلام الذي أوجدنا أنفسنا فيه، ولقد يئسنا من أن نتبع طريق الحق، فيخاطبكم: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا). كل إجابة من هذه الإجابات هي قضية تحتاج إلى تفسير، وإلى إيضاح، وإلى فهم، وإلى سلوك في الحياة، ليتوافق عملك مع مفهومك، فتكون مسلما لقانون الحياة، وتكون طائعا لله. ونحن حين نتكلم عن الله فإننا نقصد دائما قانونه وأسبابه؛ لأن الله كمطلق لا نستطيع أن نحيط به، ولا نستطيع أن نعرف إرادته، ولا نستطيع أن نعرف حكمه، لا نستطيع أن نرى إلا حكمه في وجودنا وفي أرضنا، وفي القوانين التي سن لنا المشهودة على أرضنا، هي آلاؤه وهي وجهه، أمرنا ألا نفكر في ذات الله ولكن نفكر في آلاء الله. لذلك، فحين نقول أن الله أراد ذلك، فإرادته في الكون وما يحدث في الكون، هي ما نراه، فنحن نرى ظاهر إرادته فيما أوجد، وفيما خلق، وفيما سن، وفيما أحدث، وفيما يحدث، في كل ما يجري من أمور على هذه الأرض هو ما نستطيع أن نتعامل معه. فإرادتنا هي واقع إرادة الله فيما أراد، وإرادة الآخرين أيضا هي إرادة الله فيما أراد، ولذلك فحين نسلك، فنحن لا ننظر إلى المطلق، وإنما ننظر إلى واقعنا، وإلى حياتنا، وإلى ما نعتقد أنه الخير، وإلى ما نعتقد أنه الصواب، وهذا هو الذي يحركنا، وهو الذي يدفعنا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فيعبدون هنا هي ما تفعلون، وما به تقومون، وما تتخذون من قرارات في حياتكم، وفي وجودكم، وفي سلوككم، إنها كلها عبادة لله. خلقكم لتتفاعلوا مع هذا الكون، فتغيرون وتتغيرون، فتصلحون وتصلحون، تعلمون وتتعلمون، تصنعون، وتزرعون، وتحصدون، ولنتائج أعمالكم تحصلون، فبها تعيشون، وتكافحون، وتجاهدون، وتتحابون وقد تتصارعون، تجتمعون وتفترقون، تتواصون وقد تختلفون، فإذا اختلفتم فلترجعوا إلى عقولكم، وإلى ما ترون فيه صالح وجودكم، حتى تجتمعوا على أمر بينكم به تصلحون مجتمعكم وتغيرونه إلى الأفضل في حياتكم. كل الناس مثلكم، مهما اختلفت دياناتهم، أو أعراقهم، أو أجناسهم، أوحضاراتهم، أو ثقافاتهم، فالكل فيه معنى الإنسان، وكل الناس عندهم نفس الكفاءات والإمكانات، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. مهما اعتقد آخرون في أمور غيبية، فلا يجب أن نختلف على أمور غيبية؛ لأن الأمور الغيبية لا يختلف عليها، وإنما نتجه إلى الكلمة السواء، الكلمة السواء هي الإصلاح في الأرض، كيف نعيش أفضل، وكيف نغير حياتنا إلى الأفضل، أفضل ماديا وروحيا ومعنويا، هذا ما نتعلمه في آيات الحق لنا، وهي تعلمنا الكلمة السواء…

تعليق:

يوضح الحديث كيف أن الحق يجيب على تساؤلات الإنسان في آياته التي أرسل وفي كونه الذي خلق.

مفاهيم دالة :