٣-العبادة
الفقرات التالية تصف المفهوم العام للعبادة كما جاء في الأحاديث وسوف نستخدمه كمقدمة لهذا الجزء:
… العبادة كما نتدبرها، وكما نتفهمها، هي محاولة الإنسان أن يكون في منتهى العطاء في عمله، وفي علمه. أن يحاول قدر طاقته، أن يفعل كل أدواته، وكل إمكاناته وقدراته، من أجل أن يتعلم، ومن أجل أن يتفهم أسباب الحياة وقوانينها، وأن يفعل ما يتفهمه في حياته وفي معاملاته. إذا تأملنا في هذا المفهوم، نجد أن هذا ما يراه كل إنسان عاقل بفطرته، وما تدفعه إليه احتياجاته من مأكل، وملبس، ومسكن وخلافه. إنه هدف واحد، وهو أن يقوم الإنسان في معنى العبودية لله، هو أن يكون أكثر عطاء وأكثر علما وأكثر عملا، كل بإمكاناته وقدراته، فالقدرات تختلف من إنسان لإنسان. وفي نفس الوقت الذي يسعى لذلك، تكشف له كل الرسالات السماوية، أن هناك جانبا آخر في حياته ليكون في معنى العبودية الحقة، وهو الجانب الروحي والمعنوي الذي يساعده في تخطي الأزمات على هذه الأرض، وفي المرور فيها وما أكثرها. وأن يتعلم أنه كإنسان هو كيان له حياة وله مستقبل، وأن كل ما يمر به يمكنه أن يحوله إلى طاقة إيجابية تساعده في انطلاقته الروحية، فلا ينظر لإنسان آخر، أو لحال آخر، وإنما يركز فيما أعطاه الله، وفيما وهبه الله، كيف يعظمه ويجعل منه وسيلة للتغيير إلى الأفضل… (٢٠٠٨/٢/٢٩)
جنوح بعض الناس إلى رفض الطاعة لأوامر غيبية لا يفهمونها بظاهر عقولهم هو أمر غير مقبول، فالإنسان في كثير من الأحيان ـ حتى في العلوم الظاهرية ـ لا يبدأ تجربة وهو مدرك لها كل الإدراك، وإنما قد يفهمها من خلال ممارسته لها، ومن خلال تجارب كثيرة. والعبادة هي تجربة روحية، فيها يعيش الإنسان بقلبه وعقله وروحه. ليس شرطا أساسيا أن تفهم النتيجة قبل أن تمارس، ولكن الشرط الأساسي هو أن تتأمل في نتيجة هذه التجربة، وتحلل نتائجها، وتحلل حالك، هل أنت في حالة مستقيمة، أم أنك في حال غفلة؟ هل أثرت عليك سلبا أم إيجابا؟ ما هو المراد منها وأنت تمارسها؟ تسأل نفسك وتسأل ربك. إن الطاعة في حد ذاتها هي سؤال ودعاء، ليكشف الله لك عن سر قيامك، وعن سر علاقتك به. ومن هنا نجد تلازم الطاعة مع التأمل والتفكر والتدبر والدعاء، هذا ما يجعل الإنسان معملا لما أعطاه الله من نعم، لأنه يقيس بقلبه، ويقيس بعقله، ويقيس بضميره، فيما يفعله وفيما يقوم به. أما إذا توقف الإنسان عند الطاعة دون ان يلازمها تفكر وتدبر، فإن هذه الطاعة ربما تؤدي إلى عكس ما يرجوه. ونحن نرى أمثلة كثيرة في تاريخنا، فيمن قتلوا الأولياء وقتلوا الخلفاء وقتلوا الأتقياء، كانوا في ظاهرهم ملتزمين، يصومون الدهر ويقومون الليل… (٢٠٠٩/١١/٢٠)
…كل المعاملات، وكل العبادات الروحية تختص بهذا الوجود الروحي في الإنسان، فالذكر هو علاج لهذا الوجود الروحي، وكل العبادات هي إحياء له. وكما أن الإنسان يحتاج لحياة وجوده المادي لطعام، وشراب، ودواء، وممارسات رياضية دائمة للحفاظ على هذا الوجود المادي ـ فهو في حاجة إلى غذاء روحي، وإلى ممارسات روحية تساعد وجوده الروحي على النماء. هذه الممارسات الروحية، هي جزء أساسي في المفهوم الروحي ككل. نستطيع أيضا أن نقول أن كل الأمور الغيبية في حياة الإنسان هي أمور روحية، وأن كل المعاملات المشهودة في حياة الإنسان هي معاملات سلوكية، والدين قائم على التعاملات الروحية، وعلى التعاملات المادية السلوكية. فالذكر أساسه معاملات روحية، قد يكون لها انعكاس مادي، أو أن يكون لها علاقة بوجود، أو تعامل، أو حال مادي. فالصوم مثلا هو تعرض الوجود الروحي للإنسان لنفحات الله ، وفي نفس الوقت يساهم فيه الجسد بامتناعه عن شهواته، وعن طعامه وشرابه، فيكون للجسد دور، إلا أن الصوم فوق الجوع والعطش؛ لأنه مرتبط بفهم روحي في معنى وجود الإنسان المعنوي، وتعرضه لنفحات الله الروحية. والصلاة كذلك فيها شق مادي يقوم به الجسد، ولكن هذا الشق ليس الأساس، وليس الهدف، إنما هو تعبير عن معنى أعمق. (٢٠٢٠/٢/١٤)
وقد تم تقسيم مفهوم العبادة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية هي: الذكر القلبي، التدبر: الجهاد. الذكر القلبي هو ما يقوم به الإنسان في سكون مع نفسه. والتدبر هو ما يقوم به الإنسان بعقله متفكرا بعمق في نفسه وفي الكون حوله. الجهاد هو ما يقوم به الإنسان من فعل لإصلاح نفسه وإصلاح ما حوله. ما يجعل أي فعل يوصف بالعبادة هو نية الإنسان أن يتعامل مع الله ويراقب الله في هذا الفعل.