أحاديث الفترة من ١٩٩١- ١٩٩٥
٩٧ - الإنسان يأخذ من دين الفطرة بقدر مستواه العقلي والقلبي والروحي
تاريخ الحديث: ١٩٩١/١/٤
”… إن دين الحق يعلمنا أن تكون الحكمة ضالتنا نبحث عنها، ونتجه إلي الله لنحصل عليها، ونتعلم لنصل لها. إن دين الفطرة يخاطب الناس جميعا علي جميع مستوياتهم، وعلي جميع صورهم. يخاطب الصغير والكبير، كما يخاطب كل جنس، وكل ثقافة، وكل حضارة، وكل إنسان في أي مكان علي هذه الأرض. والإنسان يأخذ من دين الفطرة بقدر مستواه العقلي والقلبي والروحي. كلما رفع الإنسان من مستواه كلما تذوق أكثر، وعرف أكثر، تفاعل مع دين الفطرة أكثر. هذا ما قام به الصادقون من المتصوفة، الذين أعملوا عقولهم وقلوبهم، وتفاعلوا مع دينهم فأفاض الله عليهم بعلمه ونوره، وفتح لهم أبوابا ومعارف ومنابع ينهلون منها. فمنهم من احتفظ بهذه العلوم لنفسه، ومنهم من أراد أن يبلغها لغيره. كل صادق فيما فعل، وفيما رأي أنه الحق في وقته. ولكن بعض الناس لم يستطيعوا أن يدركوا ما قدم هؤلاء فحاربوهم، واتهموهم بالخروج عن الدين. وهذا أمر قائم الي اليوم. في هذا العصر قضيتنا هي قضية كل صادق، قضية كل مسلم، رأي في الإسلام معني الحياة. قضية المسلم الصادق أن يكون قدوة صالحة، أن يكون باحثا عن الحق والحقيقة، ومتفاعلا معها، ومدركا أن ذلك هو الدين، وأن دين الحق هو ما يدعو الي الأحسن والأفضل والأقوم. إن استقامة الإنسان في سلوكه، سلوك العقل، وسلوك القلب، وسلوك الجوارح، تؤدي بالإنسان الي أن يكون عبدا لله. عبوديته لله هي أن يكون حرا في تفكيره وفي سلوكه، يتبع الأحسن والأفضل. لا يسير وراء خرافة، أو وراء شكل أو صورة، إنما يعبد الله الذي ليس كمثله شيء. علينا أن نكبر ديننا، ونقدر ديننا، ونعرف أن ديننا هو دين الناس جميعا الذين بلغوا به بفطرة الحياة فيهم. من اتجه الي فطرته وأعمل عقله فسوف يجد دينه بين جوانحه…”
تعليق:
المفهوم الرئيسي في هذا الحديث هو أن دين الفطرة خاطب ويخاطب الناس جميعا علي جميع مستوياتهم، وعلي جميع صورهم. في أي مكان وفي أي زمان علي هذه الأرض. والإنسان يأخذ من دين الفطرة بقدر طاقته وإمكاناته، بقدر مستواه العقلي والقلبي والروحي
مفاهيم دالة :
٩٨ - الربط بين مفهوم العدل ومعني العبودية لله
تاريخ الحديث: ١٩٩١/٣/٢٠
”… كل إنسان يدعو بما هو له أهل، بما علمه الله، وبما هداه إليه. يدعو بالخير علي ما يراه، وبالحق علي ما يدركه. الخير الذي نشهده ونطلبه أن يسعي الإنسان في طريق الله، أن يضيف الإنسان الي وجوده والي قيامه في كل لحظة معني جديدا في الله. رجاؤنا وطلبنا، أن يكون حالنا حال الذاكرين العابدين الخالصين (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السنوات والأرض). أن يكون حالنا حال الطالبين المجاهدين العاملين الذين لا يكلون ولا ييأسون ولا يتهاونون، فهم مع الله يتعاملون وعليه يتوكلون. ديننا يعلمنا ذلك ويرشدنا الي ذلك في كل أوامره وفي كل نواهيه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان إيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي). إن العدل أن يقوم الإنسان أمرا وسطا في كل معاملاته مع الآخرين (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون). عدل الإنسان مع نفسه أن يقصد وجه الله، لا ينسي أن وجوده على هذه الأرض هو ليكون عبدا لله، فالدنيا في حقيقة أمرها لا تتعارض مع الآخرة. لكن الإنسان الذي يعيش بجزء من وقته في الدنيا، ويعيش بالجزء الآخر في الآخرة، إنسان لم يوحد وجوده. لا زال يري الدنيا دنيا، والآخرة آخرة، ولا توحيد لهما، إلا بأن يقصد وجه الله، ويشهد أن لا إله إلا الله. فلا يري دنيا، ولا يري آخرة. إنما يري الله ويشهد الله. عبر لقوم عن ذلك بقولهم في قضية آخرتهم (جلهم يعبدوك من خوف نار ويرون النجاة حظا جزيلا ليس لي بالجنان والنار حظ أنا لا أبتغي غير وجه ربي بديلا). فالإنسان حين يشهد حقا أنه لا إله إلا الله ويشهد حقا أن محمدا رسول الله لا يري إلا الله، ولا يقصد إلا الله، ولا يتعامل إلا مع الله، ولا يتجه إلا الي الله، ولا يتوكل إلا علي الله. لا يري الدنيا ولا يري الآخرة إنما يري الله. هذا هو التوحيد حقا وهذه هي العبودية لله حقا. فإذا كنا في حياتنا وفي وجودنا نستخدم لفظ العبودية لله علي وجه العموم، فهذا لا يصح ولا يليق لأن العبودية لله مقام كبير (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين). فالعبودية لله أن يعيش الإنسان بكله لله، وأن يحيا الإنسان بذكر الله، وأن يقوم الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته وهو يشهد أن لا إله إلا الله. فإذا كان حالنا ليس كذلك، إن كنا لا زلنا نفرق بين دنيانا وأخرانا، وإن كنا لا زلنا نعيش بوجودين، فنحن لم ندخل بعد في معني العبودية لله، وفي معني التوحيد الحقي، وشهادة أن لا إله إلا الله. إن الحق حق مهما اختلف الواقع عنه. وإن النور نور مهما كان الظلام منتشرا. وإن العبودية لله شرف كبير، ومطلب عظيم، مهما كان الحال الذي نحن قائمون عليه بغفلة وبعد عن معني العبودية الحقي. لا يجب على الإنسان أن يقنن الظلام، وأن يفرض الغفلة، بظن الواقع وإنما علي الإنسان دائما أن يبحث عن الحق والحقيقة منطلقا وحرا في تفكيره، وحركته، وسلوكه، غير مكبل بظلام فهم وبسوء إدراك. إنا إن كنا غير قائمين في معني العبودية لله فلا يعني ذلك ألا نطلب أن يساعدنا الله لنحقق ذلك. فنحن نطمع في عطاء الله وكرمه، ونطمع في توفيق الله وقوته، حتى نكون عبادا لله حقا…”
تعليق:
المفهوم الرئيسي في هذا الحديث هو الربط بين مفهوم العدل ومعني العبودية لله. وهناك العدل في التعامل مع الناس والعدل في مفهوم الإنسان عن معني عبوديته لله. كما ركز الحديث على أن إدراك الإنسان لبعده عما يعتقد أنه الحق لا يجب أن يثنيه علي مواصلة الدعاء بكل الصور لتحقيق ما يري أنه الأفضل والأحسن كما يعتقده. هذا الأفضل والأحسن الذي نعتقده نطلق عليه الحق النسبي.
مفاهيم دالة :
٩٩ - أسباب الحياة هي التعبير الظاهر لقانون الحياة
تاريخ الحديث: ١٩٩١/٥/٢٤
”… إن الإنسان وهو متعرض لما على الأرض من نور أو ظلام، جعل الله فيه ما به يستطيع أن يميز الخبيث من الطيب، من أن يسلك طريق الحق أو يسلك طريق الباطل. هذا هو القانون الذي تواجد الإنسان في ظله. تجلي هذا القانون في أسباب الحياة. وكان إيمان الإنسان بالله هو في إيمانه بقانون الحياة. ولكن الناس بظن إيمان يهربون من قانون الحياة الي خيالات وأوهام من خلقهم. ويعتقدون أنهم بذلك يؤمنون بربهم. ويبتعدون عن الواقع بظن تسليمهم. والحق يقول لهم (إن الدين لواقع) ( (لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) (ادعوني أستجب لكم) (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان). التغيير هنا، والاستطاعة هنا، هي قضية صدق من الإنسان. تقديرها للإنسان. وليس المقصود هنا بعدم الاستطاعة هو خوف أو قهر. وإنما لأن في كثير من الأمور لا تستطيع اليد أن تفعل شيئا. ولا يستطيع اللسان أن يفعل شيئا. ولكن القلب دائما يستطيع أن يدعو. فالقلب محله الإنسان، ومحرابه الإنسان، وعالمه الإنسان. قد لا تستطيع لأن حديثك لم ينتج أثرا أو لأن الناس لا يستمعون إليك، ولكنك دائما تستطيع أن تدعو الله بقلبك. ودعاؤك يجب أن يكون دائما حتي في تغييرك لأمر بيدك، أو في تغييرك لأمر بلسانك، فدعاؤك القلبي يجب أن يستمر دائما. إن المعاني في هذا الحديث كثيرة، وليست واحدة. تعتمد علي حالك وحال الناس حولك. تعتمد على صدقك وعلي قدرتك. إن كثيرا من الأمو، المسؤول أنت عنها، قد تجد اليد عاجزة وتجد اللسان عاجزا لا يغير ولا يبدل. فتلجأ إلي الله بقلبك، عل هذه القوة التي منحها الله إياك في الدعاء تكون أقوي أثرا من اليد والقول. إن التغيير الذي يحدث نتيجة لدعائك القلبي هو تغيير حقي، فيمن تريد أن تغيره، لأنه يؤثر في قلبه ويغيره من داخله، لا من خارجه. وعلي الإنسان أن يستخدم كل ما أعطاه الله من طاقات من يد ولسان وقلب، في الطريق الذي يري أنه الخير والحق، لا ييأس وإنما يأمل في الله ويطمع في الله ويرجو الله دائما..
تعليق:
المفهوم الرئيسي في هذا الحديث هو كيفية التعامل مع أسباب الحياة التي هي التعبير الظاهر لقانون الحياة مع فهم لحديث “من رأي منكم منكرا فليغيره…”
مفاهيم دالة :
- ١-٢-٤-٢ كل ما يصل الإنسان إليه بعقله وبما ثبتت أفضليته هو من الدين ولا يتعارض معه
- ٣-٥-٢-٤ قضية التغيير والاستطاعة
١٠٠ - قانون وجود الإنسان وأطوار خلقه من قديم إلي قادم
تاريخ الحديث: ١٩٩١/٨/٢
”… إن كل فرد منا هو راعي وهو مسؤول عن رعيته. كل إنسان أوجد الله فيه عقلا وحسا وضميرا وقلبا (أعطي كل شيء خلقه ثم هدي). فالإنسان بسر خليقته وبسر خلقه وبسر وجوده هو عالم قائم بذاته (وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوي العالم الأكبر). تجلي الله بقدرته في الإنسان (خلق الله آدم علي صورته) (خلقتك لنفسي ولتصنع علي عيني) فكان الإنسان بذلك هو خليفة الله علي الأرض. فهل قدر الإنسان وجوده حق قدره. إن الإنسان عالم فيه مفردات الحياة. إن الإنسان ليس هذه الذات فقط. إنه قيام قديم وقيام قادم. خلقتك ولم تك شيئا، ثم أصبحت شيئا، ثم عدت وقد تخليت عن شيئيتك (في أي صورة ما شاء ركبك). إنها معارج الإنسان، ومستويات الإنسان، وطبقات الإنسان. هناك القانون الذي يحكم ذاتك في ذاتك. وهناك القانون الذي يحكم مجتمعك ويحكم علاقاتك بالآخرين. وهناك القانون الذي يحكم الأرض بمن فيها. وهناك القانون الذي يحكم المجرات والأكوان. وهناك القانون الأعلى والأعلى. ويطول بنا إسناد عنعنة حتى الي الذات. يتجلى الله بلا نهائيته في القوانين (دني فتدلي فكان قاب قوسين أو أدني) من قانون لقانون حتي يصل إليك متجليا في قانون وجودك. ومن هنا أصبح الإنسان مسئولا عن وجوده بسر قانون الله. وأصبحت علاقة الإنسان بالله هي من خلال هذا القانون. فاحترامك لقانون وجودك. وتقديرك لوجودك. هو تقديرك لله. وجعل الله لك في قانون حياتك أن تلجأ وأن تدعو وأن تستجير (أدعوني أستجب لكم). فعلاقتك بالغيب موجودة في قانون حياتك. لها أسلوبها ومنهجها وطريقها. فجعل لك بابا تطرق به معني الأعلى (والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب). الذي يطرق باب الأعلى هو الإنسان. وجعل لك أعلي تسبحه (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي) والذي يسبح اسم ربه الأعلى هو الإنسان. هو الإنسان العارج الطالب العابد الذي يطلب الرقي دائما. وهناك من يجيبه لطلبه وطرقه (إن كل نفس لما عليها حافظ) مستوي أعلي يحيط بالإنسان. يجيب الإنسان إذا سال. ويأخذ بيده في معراجه في معراجه الأعلى. وإن كان لا يصدق أن له معراج أعلي فلينظر الإنسان مم خلق (… خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب وإنه علي رجعه لقادر). إن كنت تشك يا إنسان أن لك وجودا أعلي فلتنظر كيف كنت في خلقك على هذه الأرض لتعرف كيف ستكون في قادم أمرك وحياتك. هكذا نتعلم أن ننظر الي وجودنا. وأن نعمل كل إمكاناتنا وكل طاقاتنا. نتعامل بكل ما نشهد أنه الحق، ونحيط به أنه الحق. ونطرق أبواب الحق الأعلى. لا يشغلنا ما نحيط به عما يحيط بنا. ولا يشغلنا ما يحيط بنا عما نحيط به. نقوم أمرا وسطا محيطا ومحاطا، متعاملين مع الشهادة ومؤمنين بالغيب. نقوم أمة وسطا تدعو إلي الخير وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله..
تعليق:
المفهوم الرئيسي في هذا الحديث هو قانون وجود الإنسان وأطوار خلقه من قديم إلي قادم مع تأمل في آية “السماء والطارق…” وآية ” سبح اسم ربك الأعلى…”
مفاهيم دالة :
١٠١ - التفاوت في مستويات الناس علي هذه الأرض وأن كل إنسان يأخذ من مفاهيم الحياة بقدر أهليته
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/١/١٧
”… كلما تأملنا ووجدنا ما في ديننا من معان عميقة تجمع القلوب وتدعو الإنسان في أي مكان أن يسلك الطريق القويم والصراط المستقيم، ووجدنا الناس وقد أخذوا من الدين قشرته، ورفضوا قلبه ولبه، بظن أن هذه القشرة هي كل الدين، نتساءل هل يمكن لهذه المعاني العميقة أن تكون هي حال الناس اليوم بدلا من قشور اخذوها، وكلمات رددوها وعبدوها. نسوا أن الدين هو تأمل وفكر، وبحث وجهاد، وسلوك وعمل وتعامل، وافتقار ودعاء وطلب. إن طريقنا يفتح لنا أبوابا من العلم والمعرفة، يجعلنا ندرك قوانين الحياة، ونقوم قوانين الحياة، ونعيش قوانين الحياة. هكذا كان الحال دائما لعارفي الحكمة ومحبيها وطالبيها، يدركونها ويقومونها، ويعيشونها أفرادا وجماعات قليلة، لأنها في حاجة لقلوب حية خالصة، ولعقول متفتحة منيرة، ولأرواح طاهرة، ولنفوس زكية. أما العقول المظلمة، والقلوب الجاحدة، فهي لا تستطيع أن تخطوا خطوة في طريق الحق والحياة. هكذا قانون الحياة.. قليل من عبادي الشكور، هكذا قانون الحياة.. الذين يجاهدون ويجتهدون، ويبحثون ويتعلمون، قلة من كثرة. وهكذا نتعلم أن دين الفطرة وهو يخاطب الناس جميعا، خاطب الجميع في كل مستوياتهم، وفي كل أحوالهم، في كل مجالاتهم. وكل يأخذ بما هو له أهل، وكل يفهم بما هو له أهل، وكل يتذوق بما هو له أهل. لذلك كان التوجيه دائما أن يبدأ الإنسان بنفسه فيصلح حالها، ويكثر من معارف الحياة وعلومها، ويطهر قلبه ويحيي ضميره، وينير عقله بالتعرض لنفحات الله، ولرحمات الله، ولنور الله، ولجمالات الله. كلما اتقي الإنسان الله من داخله، شعر بالحياة أكثر، وكلما تذوق المعاني أكثر، وكلما أدرك ما لم يكن يدرك، ويعلم ما لم يكن يعلم…”
تعليق:
المفهوم الرئيسي في هذا الحديث هو التفاوت في مستويات الناس علي هذه الأرض وأن كل إنسان يأخذ من مفاهيم الحياة بقدر أهليته.
مفاهيم دالة :
١٠٢ - التأمل في سورة القدر وآياتها وما تحمله من معان أكبر مما هو متداول من تجسيد لها في وقت وشكل
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/٣/٢٧
”… فليلة القدر هي تعبير حقي عن تعرض الإنسان لنفحات الله (ليلة القدر خير من ألف شهر). فأنت يوم تتعرض لنفحات الله وتوصل تكون أهلا لاصطفائه ولكرمه وجوده (إن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس). خير من ألف شهر، لأن كل أملك في كل عباداتك، ومن كل أعمالك، أن تكون أهلا لهذه الليلة الحقية. كل عمرك، وكل أيامك، وكل عباداتك، أن تكون أهلا لها. فيها تخرج من حال إلي حال، وتنتقل من مقام إلي مقام، تصبح خلقا آخر، ووجودا آخر، وقياما آخر. في هذه الليلة المباركة تكون أهلا لأن تتلقي ما لا يمكن أن تتلقاه (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) (الذين قالوا ربنا الله تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا). فليلة القدر هي معني حقي، هي قيام حقي للإنسان في طريقه إلي الله، إنها اللحظة التي تصبح فيها بوجودك أرضا صالحة، وقياما صالحا، تكون أهلا لأن تشعر بفيوضات الله، وبعطاء الله، وبرسل الله وملائكة الله. أمل الإنسان أن يصطفيه الله، وأن يرحمه الله، وأن يفيض عليه الله، وأن يغيره الله (لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسه). أن يكون أهلا لوصلة الأعلي (صل عليهم فإن صلاتك سكن لهم). كل هذا بإذن الله، (بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتي مطلع الفجر). إنه رمز حقي آخر، فأنت علي هذه الأرض في حجاب، في ظلام محيط بك من كل جانب، ما تدري ما تفعل غدا، ولا تدري ما هو مستقبلك، وما هو مآلك. قيامك في ليلة القدر، وأنت في هذا الظلام، فيه سلام، فيه الإحساس بكل هذه المعاني والتلقي لها، حتي تشهد ذلك يقينا. فالفجر هنا هو الشهادة اليقينية، هو خروجك من هذه الأرض، وخروجك من هذه الأرض لا يعني الموت، فكم من الناس يموتون وهم لم يخرجوا عن هذه الأرض لتثاقلهم، وتمسكهم بأرضهم وذواتهم، لعباداتهم لما يملكون من ذات وجاه ومال. أما الصالحون فإنهم لربهم يلبون، ولدعائه يجيبون، فيخرجوا من هذه الأرض قبل أن يموتوا بذواتهم (موتوا قبل أن تموتوا). فقد آمنوا بربهم غيبا، وقد آمنوا برحمة ربهم غيبا، وقد آمنوا بملائكة ربهم غيبا وآمنوا بالروح غيبا. عرضوا أنفسهم لكل ذلك، وجاهدوا في سبيل الله (الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). فكانوا لكل هذا الغيب أهلا. والغيب نسبي، فما لا تراه اليوم قد تراه غدا. فيصبح شهادة بعد أن كان غيبا، وسيظل دائما هناك غيب تريده وتطلبه. فالمعاني الحقية في ديننا كثيرة للذين يتفكرون ويتأملون. أما الذين يحددون، ويرسمون، ويكسمون، ويتخيلون فهم للحرف يعبدون ويقدسون وينتظرون لشيء من خيالهم، ومن رسمهم، لأنهم يجسدوا المعاني في عقولهم. أما المعاني في حقيقتها فهي معان لا رسم ولا كسم لها، هي معان حقية نتأمل فيها تأملا مجردا، لا تأملا مقيدا (فكل ما جال ببالك، فالحق علي خلاف ذلك). لأن الحق أكبر من أن يحاط به. إنما نرجو ونطمع أن نكون في طريق الحق، وأن نكون أهلا للحق. ما نقوم به في تأملنا هو الخروج من التجسيد، ومن التوثين إلي الإيمان بالغيب، إلي الإيمان بوجودنا، وأننا خلقنا لنكون عبادا لله حقا، لنكون قياما أكرم، ووجودا أعظم، لنكون خلقا آخر (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك) …” ٢٧/٣/١٩٩٢
تعليق:
يتناول هذا الحديث التأمل في سورة القدر وآياتها وما تحمله من معان أكبر مما هو متداول من تجسيد لها في وقت وشكل.
مفاهيم دالة :
١٠٣ - كل إنسان بطبيعته يدافع عن الحق الذي يراه ولا يستطيع أن يدعي أنه يدافع عن الحق في إطلاقه، فالحق في إطلاقه ليس في حاجة لأحد
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/٥/١٥
”… كل فرد علي هذه الأرض مكلف برسالة وعليه أن يدافع عن رسالته وعما يعتقد. وهو يعلم تماما أن الآخر أيضا عنده نفس الحق في أن يدافع عما يعتقد، وعما يري أنه الحق. وكل إنسان يري أنه علي الحق. والحق في إطلاقه لا يستطيع إنسان أن يدعي أنه ملكه هو فقط، أو أنه هو الذي يعلمه فقط. فكل إنسان بطبيعته يدافع عن الحق الذي يراه ولا يستطيع أن يدعي أنه يدافع عن الحق في إطلاقه. فالحق في إطلاقه ليس في حاجة لأحد، غني عن العالمين. فلا يستطيع إنسان أن يلزم الناس جميعا أن يروا ما يراه أو أن يفكروا كما يفكر. فكل إنسان هو حر في عقيدته، وفي تفكيره، وفيما يري أنه الحق. لذلك فإن دين الفطرة في جميع تشريعاته احترم حرية الإنسان وخصوصية الإنسان. وفي نفس الوقت وضع قواعد لتعامل الإنسان مع الإنسان. فالإنسان إن كانت له حريته، فيجب عليه أن يحترم حرية الآخرين، وأن يلتزم بقواعد تربط بينه وبين الآخرين. فالحرية في المجتمع ليست مطلقة، وإنما يربطها قانون يتفق عليه الناس، ويصبح حكما بينهم وبين بعضهم. لا يعتدي أحد علي أحد في ماله أو عرضه أو فكره أيضا. وحين يتفق الجميع علي قانون يحكم العلاقة بينهم، واضعين في الاعتبار ما يؤمنون أنه الحق في تنظيم العلاقات بينهم علي ما يشهدون كجمع. يصبح هذا هو القانون الذي يحكم بين الجميع. هناك البعض الذين يعتقدون أن هذا القانون هو الدين. هناك مفاهيم كثيرة للدين والمفهوم المطلق للدين لا يستطيع أحد أن ينسبه لمفهومه. ومن هنا كان علي الناس جميعا ألا يتخذ أحدهم من كلمة الدين سببا لقهر الآخرين، وإنما يتجادلون بالتي هي أحسن، ويضعوا مصلحة الأمة كما يشهدها العقلاء فوق كل شيء، ويعلموا أن الدين جاء لخير الإنسان، وللتيسير علي الإنسان. دين الفطرة لا يقف حائلا أمام أي دعوة حقية وأخلاقية تتفق مع مبادئ الخير والسلام، دين الفطرة يعلم الإنسان أن الناس سيظلون مختلفين (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). فالاختلاف قائم وموجود، وعلي الإنسان أن يتعلم أن يعيش في جو من التحاور الدائم، يحترم كل فرد حرية الآخر في التعبير، في إطار من القيم الأخلاقية والمبادئ السامية. مصلحة الإنسان الحقية التي جاءت بها جميع الأديان السماوية، والتي لا يختلف الناس جميعا عليها. فكل الناس تري في الصدق قيمة حقية، وفي الجمال قيمة حقية، وفي الخير قيمة حقية. هذه طبيعة الإنسان التي فطر الله الإنسان عليها (إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربي، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي). فكل إنسان حتي وإن كان عاصيا إلا أنه لا يري في المعصية أنها الخير، إنما نفسه غالبة عليه. لو رجع إلي فطرته لوجدها غاضبة، غير راغبة فيما هو قائم فيه. فالقيم الحقية هي فطرة الإنسان التي يجتمع عليها الناس جميعا بما فيهم من سر الحياة. إن أي دعوة حقية تكبر ما جاء في دين الفطرة من معاني الحرية، ومن معاني الاعتقاد، ومن معاني أن الاختلاف. لا يجب أن يؤدي الاختلاف إلي حروب. وإنما الاختلاف في المفاهيم يجب أن يسوده حوار الذين يبحثون عن الحق في أي مكان وزمان. وهنا تصبح العلاقات قائمة علي فهم مستقيم لمعاني الحياة. لا يعلل الناس حروبهم بالدين. فالدين أكبر من أن يكون سببا لحرب فيها إزهاق أرواح. إنما الدين هو فهم للإنسان عن نفسه، مستعينا بما جاءت به الديانات والرسالات السماوية. الدين أصبح في هذه الأيام، يتخذ زريعة لكثير من المبررات، ومن الشهوات ومن المطامع؛ فأفسد الناس مفهوم الدين في كثير من الأمور. الإنسان في دين الفطرة لا يحارب إلا دفاعا عن حريته في أن يعبر عن مفهومه في الحياة، ولكن لا يحارب لفرض رأي علي الآخرين، ولا لقهر أناس، ولا لقتلهم أيا كانت دياناتهم أو تفكيرهم…”
تعليق:
يتناول هذا الحديث نسبية الحق وما يتبع ذلك من احترام كل إنسان لما يعتقده الآخر
مفاهيم دالة :
١٠٤ - وظيفة ودور العلماء في كل عصر أن يجتهدوا ليبينوا الأصل الحقيقي لمفاهيم العلماء في عصور سابقة وأن يبينوا إن كانت هذه المفاهيم تحتاج إلى تغيير في العصر الحالي
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/٧/١٧
”… إن وجودنا على هذه الأرض في هذا الزمان وفي هذا المكان ما كان صدفة، إنما هو تقدير العزيز الحكيم. فلا يجب أن نفرط في أمرنا، أولا نقدر ما نحن فيه حق قدره. إنما علينا أن نكون أهلا لما أوجدنا الله فيه، وما أقامنا عليه. ماذا يمكن أن نقدم لبشريتنا ولمجتمعنا؟ ما هو الخير الذي نراه ونريد أن نحققه؟ وكيف نحققه؟ ما هو الذي نريد أن نغيره؟ وكيف نغيره؟ كيف أصبح الناس في مفاهيمهم ومعتقداتهم تجاه دينهم؟ وهل هذا هو الدين حقا؟ أم أن كثيرا من الأمور قد شوهت ومسخت بظلام الناس ونفوسهم، وتفاسيرهم. فأصبح الناس اليوم لا يفرقون بين الدين في جوهره وبين تفسير الناس له. إن كل إنسان مكلف أن يبحث عن الحقيقة بقدر ما يستطيع. وظيفة ودور العلماء في كل عصر أن يجتهدوا ليبينوا الأصل الحقيقي لمفاهيم الناس في عصور سابقة وأن يبينوا إن كانت هذه المفاهيم تحتاج إلى تغيير في العصر الحالي. كل إنسان قادر أن يجتهد، عليه أن يميز بين القديم والحديث ويشهد كلمة الحق التي يراها. ولكن الناس والعلماء أصابهم جمود، فأصبح دورهم أن يرددوا ما قال السابقون. لا يقرأون في كتاب الحق، ولا يتعلمون من مصادر الحق. إن نبع الحق ومصدر الحق لا ينضب. إن كان السابقون قد قاموا بدورهم على ما يظنون أنه الحق، ويعتقدون أنه الحق فإن على الذين يعيشون اليوم ويجتهدون أن يبحثوا، وأن يفكروا ويتأملوا في آيات الله. إن دين الفطرة جاء بمعان أساسية، وقيم حقية، ومبادئ روحية، وأمر الإنسان أن يتفكر ويتدبر، وأن يطبق هذه المعاني وهذه المبادئ في الصورة التي يستطيع أن يقوم بها. لم يحدد شكلا، ولم يحدد صورة. ولكن نفوس الناس المظلمة في كل زمان وفي كل مكان تحب أن تخلق الأصنام وتعبدها، وأن تتبع ما لا يعقل، وأن تقول هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وإنا على آثارهم مقتفون إلا من رحم الله، وإلا من كان قلبه حيا بنور الله فإنه لا يرضي بذلك، وينشد الحق ويبحث عنه في كل مكان وزمان. إن شهادة لا إله إلا الله التي أمرنا بها لنكون مسلمين، هي أن نتحرر من عبادة الأوثان والأصنام، والأوثان والأصنام ليست مجرد حجارة، وإنما أي أفكار بالية، وأي كلام لا يعقل، وأي طريق لا يقبل. ترجع إلى قلبك، وترجع إلى عقلك، وتعلم تماما أن لا إله إلا الله فلا تعبد صورة، ولا تعبد شكلا، ولا تعبد إنسانا، ولا تعبد كلاما، ولا تعبد تفسيرا. إنما تعبد الله، لا تخشي في الحق لومة لائم، ولا تخشي أن يقولوا إنك قد خرجت، وإنما تخشي الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء). خشيتك لله ألا تفرط فيما أعطاك الله من نعمته، ومن رحمته، ومن علمه، ومن سره. وهذا هو دين الفطرة، هو دين الحياة الذي علم الإنسان كيف يقرأ كتاب الحياة، وكيف يتعامل مع الحياة، وكيف يتبع ما هو أحسن، وكيف لا يرضي بالذي هو أدني (لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) …”
تعليق:
يتناول هذا الحديث وظيفة ودور العلماء في كل عصر بأن يجتهدوا ليبينوا الأصل الحقيقي لمفاهيم الناس في عصور سابقة وأن يبينوا إن كانت هذه المفاهيم تحتاج إلى تغيير في العصر الحالي وليس دورهم أن يرددوا ما قال السابقون فقط. وكل إنسان قادر أن يجتهد، عليه أن يميز بين القديم والحديث ويشهد كلمة الحق التي يراها
مفاهيم دالة :
- ١-١-١٥-٣ الإنسان خلق ليأخذ من دين الفطرة ويتفاعل معه بقدر طاقته وإمكاناته
- ٢-١-١٠-٢ اتخاذ السلف أربابا من دون الله
- ٢-٢-١٩-١ كل إنسان في مجاله يستطيع الاجتهاد ليبين مدى إمكانية تطبيق ما تعلمه من تجربته في الواقع المعاش
١٠٥ - الإنسان بوجوده، وهو كيان قائم بذاته، وعالم فيه كل أسرار الوجود، فيه الخير وفيه الشر، فيه الحق وفيه الباطل، فيه النور وفيه الظلام، كما أن فيه الإرادة التي هي من وراء كل فعل له
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/٩/٤
”… الإنسان بوجوده هو كيان قائم بذاته، وعالم فيه كل أسرار الوجود، فيه الخير وفيه الشر، كما أن فيه الإرادة التي هي من وراء كل فعل له. وهو كائن قائم كنتيجة لهذا الذي هو فيه من محاورة بين الخير والشر. فالحق فيه يستعين بكل معاني الحق المحيطة به، بوصلته بمعني الحياة، كما أن الظلام فيه يستمد ظلامه من الظلام القائم في مجتمعه. الإنسان يجمع بين جوانحه المعنيين والحالين والقيامين (وهديناه النجدين)، (ألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها). إن ما يحيط به الإنسان في وجوده هو ما فيه من معان في المعسكرين، وكل من هذه المعاني له كيانه وله وجوده، له طاقته وله قوته. فمعني الرحمن في الإنسان يبحث عن الحق والحقيقة، ويريد أن يملأ فراغ الإنسان بالحق والحقيقة، كما أن معني الشيطان في الإنسان يريد أن يملأ فراغ الإنسان بالظلام وبالظلم. إن قضية الإنسان هي أنه جامع لأضداد الحياة فيه، هو مصدر الطاقة لكل منهما، بما فيه من سر الحياة. طاقة الإنسان إما أن يستخدمها معني الخير فيه، أو معني الشر فيه. كل يحاول، وكل يريد أن يكون له النصيب الأكبر. فمعني الخير يدرك أنه بتجمعه على أهل الخير سيجد قوة حقية تساعده فإنه يحرك وجوده كله ليتواجد في مكان فيه أهل الخير الذي يجتمعون على ذكر الله فيكسب من وجوده بينهم قوة تضاف إلي ما فيه من حق. ونفس الشيء، يحاوله معني الظلام في الإنسان، يريد أن يجذبه إلي معسكر الظلام، ليأخذ قوة من ظلمات المظلمين لتكون له الغلبة علي الإنسان. لذلك فإن أي حديث حقي هو موجه لمعني الرحمن في الإنسان، ليكون عارفا طرق الحياة التي تجعله قياما أفضل. فحين ندرك أن الله من وراء الكل بإحاطته فأهل الخير عليهم أن يستخدموا قانون الحياة، لخيرهم كما يفعل ذلك أيضا أهل الشر…”
تعليق:
يوضح هذا الحديث أن الإنسان فيه الخير وفيه الشر، فيه الحق وفيه الباطل، فيه النور وفيه الظلام، كما أن فيه الإرادة التي هي من وراء كل فعل له. وفي الواقع فإن هذا الحديث هو تأمل في الآية (ألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
مفاهيم دالة :
١٠٦ - الإنسان لا يتعلم إلا من التجربة التي يمر بها ويمارسها، فإن كان مستعدا لها كان مروره فيها إضافة لحياته النورانية، أما إذا كان غير معد نفسه لها، فهو يخسر الفرصة التي أتيحت له
تاريخ الحديث: ١٩٩٢/١١/٢٧
”… إن السير في طريق الله، يحتاج من الإنسان أن يبذل الكثير، وأن يتعلم الكثير. والإنسان لا يتعلم إلا من التجربة التي يمر بها ويمارسها (أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون). فإن كان مستعدا لها مهيئا وجوده لخوضها، كان مروره فيها إضافة لمعنوياته ولحياته النورانية، أما إذا كان غير معد نفسه لها، فهو يخسر هذه الفرصة التي أتيحت له. وخسارته ليست فقط في أنه لم يستطع أن يضيف لمعانيه، وإنما أيضا لأنها سوف تزيد من ظلامه، ومن نسيانه. لذلك فإن الإنسان عليه أن يعد نفسه قبل التجربة بالتواصي بالحق والصبر. يعد نفسه بأن يتعلم كيف تكون الاستقامة، وكيف يكون جادا في سعيه في الله، وفي علمه عن معاني الحياة. الدين يوضح للإنسان ذلك، ويضرب الله الأمثال للناس، ويقص عليهم أحسن القصص، ليريهم أنفسهم، ليريهم ما هم قادمون عليه، وما هم معرضون له، حتى إذا قابلتهم التجربة، استرجعوا ما تعلموا، وخاضوها بسلام وأمان. والتجربة الكبري التي نعد وجودنا لها، هي تجربة خروجنا من هذه الأرض. الكل يعد وجوده لهذه اللحظة الفائقة، لحظة الانتقال من هذه الأرض. ما يمر به الإنسان من أحوال على هذه الأرض يساعده على الاستعداد لهذه اللحظة. فالإنسان يري في حياته أنه قادر علي أن يفعل الكثير، وفي لحظات أخري يعجز عن أن يفعل شيئا ويشعر بقلة حيلته وأنه غير قادر أن يغير من حوله، أو أن يعطيهم ما يري أنه الخير لهم. إن ذلك تدريب للإنسان لإعداده للحظة الانتقال من الأرض حين ينظر إليها ويري ما لا يحب، ويري أنه غير قادر أن يوصل ما يريد، هل سيكون ذلك عائقا له عن انطلاقه الروحي، أم أنه سوف يترك كل ذلك ويتجه إلى الأعلى. إن الاستقامة أن يتجه الإنسان إلى الأعلى دائما، وأن يقصد وجه الله دائما، ولا يجعل ما لا يستطيع يجره إلى قيام لا هم له إلا أن يحاول فيما لا يستطيع، فيفقد حياته، ويخسر تجربته. إن هناك حدود لكل شيء، حدود تفصل بين الاستقامة فيما يستطيع الإنسان أن يغير، وبين أن تكون رغبته في التغيير متغلبة عليه، مانعة له أن يفكر فيما هو أفضل وأقوم. وهذه هي قضية الإنسان الدائمة، قضية الأمر الوسط، قضية القيام الوسط، قضية الاعتدال، قضية الميزان (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) قضية الإنسان أن يقيم هذا الميزان في نفسه، وفي أعماله، وفي رغباته، في كل أحواله وكل انفعالاته، عليه أن يكون قائما أمرا وسطا. إن هذا ليس بالأمر اليسير، إن الإنسان في كل حاجة، وفي كل أمر، عليه أن يراجع نفسه، ويراجع عقله، ويراجع وجوده، يعكس البصر داخلا، يعكس البصر إلى أعماقه، ويسأل قلبه ماذا يريد؟ وماذا يطلب؟ وماذا يرجو؟ عباد الله: إن الذكري تنفع المؤمنين، تنفع الطالبين، تنفع السائلين، تنفع المتآلفين المتحابين، تنفع الساجدين الراكعين، تنفع الذين يطلبون، والذين يسألون، والذين في الحق يرغبون، والذين يتساءلون، وربهم يدعون، وله يرجون، ووجهه يقصدون. إن الدين لم يجئ ليملأ رأسك بكم من المعلومات، وإنما جاء ليعلمك كيف تعرف، وكيف تقوم في المعرفة، وكيف تحصل على المعرفة مما يدور حولك، ومما يدور في داخلك. فليست هناك مجموعة من الكلمات تحفظها وينتهي الأمر، وإنما هناك عمل دائم، وجهاد دائم، ومحاولة دائمة، وتفاعل دائم مع أحداث الحياة، لتقوم المعرفة فيك، ولتكون قياما في الله أفضل، وعبدا لله أصلح، ورجلا في الله أصدق. إن الدين ممارسة، وتفاعل، وعمل، وعلم، ومعرفة، وقيام، وسلوك، وجهاد، وتحصيل، وتغيير رؤية، وتقبل لحال، وتواصي بالحق، وتواصي بالصبر. الحقيقة لا نهائية ليست في كتاب مسطور أو منطوق، أو شكل، أو وثن، وإنما هي مطلب الإنسان الدائم، يسعي في سبيله، ويجاهد ليقوم فيه، الذي يتصور أن الدين ينتهي عند كلمات، أو مناسك، أو أوامر ونواهي، فنظرته قاصرة، ومعرفته ناقصة، لأن الدين لا يقف عند شيء. إنه البحث الدائم، والعمل الدائم، والأفضل الدائم، والتغيير الدائم، من حال إلى حال، ومن قيام إلي قيام، ومن أفضل إلي أفضل، ومن أحسن إلي أحسن. إن النفس بظلامها، وبقصور نظرها، وبعجلتها في أمرها، تريد أن تصور الدين شكلا وصورة وتنهيه عند هذا الحد، لتتفرغ لشهواتها، ولتتفرغ لرغباتها، بظن دين أقامته، وبظن دين عرفته. إن قضية الإنسان ليست في شكل يقومه، أو في كلمة يرددها، أو في أمة ينتسب إليها اسما وصورة، إنما قضية الإنسان أن يبقي باحثا دائما عن الحقيقة، وأن يظل دائما يرجو أن يكون عبدا لله، وأن يظل دائما في رغبة في طريق الله وفي نور الله. إن اللحظة التي يموت فيها طلب الإنسان لأعلاه، وخشية الإنسان من ربه، هي موت للإنسان. إن اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه قد عرف كل شيء، وأدي كل شيء، وقام كل شيء، هي لحظة موت الإنسان، موت الحقيقة في الإنسان، موت الحياة في الإنسان. فالموت إذا كان للنفس وظلامها، فهو حياة لروحه ومعناه (لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). أما إذا كان الموت لروحه ومعناه، فهو موت لكل ما فيه. لأن حياة الذات ليست لها استمرار في كيان، وإنما هي تذوب في الأسفل والأدنى (رددناه أسفل سافلين) …”
تعليق:
يوضح هذا الحديث تأمل في الآية: (أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) وربط ذلك بأن التعلم على هذه الأرض يكون من خلال مرور الإنسان بتجارب في حياته تعده لتجربة أكبر. وأن التفاعل مع آيات الله يعده أيضا لمرور تجربته الكبري وهي الانتقال من هذه الأرض.
مفاهيم دالة :
- ١-٢-٧-٣ العلم الأعلى هو الذي ينبع من التجربة الذاتية
- ٢-٢-١٩ يجتهد ويتعلم من التجربة
- ٢-٢-١٩-٢ الإنسان يستفيد من التجربة إذا كان مستعدا لها
١٠٧ - كل حادثة وكل آية فيها رسالة للناس إن قرأوها تعلموا منها وإن تركوها ما كسبوها ولا عرفوها
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/١/٢٢
”… إنا في هذه الأيام نتذاكر ونتذكر آية الإسراء والمعراج، دلالتها الحقية ومعانيها الإشارية، لا يلتفت إليها الناس وإنما يلتفتون الى حديث مكرر معاد. يختلفون حول كيفيتها وزمانها ومكانها ولا ينظرون إليها كرسالة لهم تعلمهم شيئا في وجودهم وحالا في قيامهم. نتذكر معانيها ورموزها، نتذكر أن كل خطوة تمت إنما هي رسالة للإنسان في كل مكان وفي كل زمان. في شهر رجب، كانت هذه الآية (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). الله هو الفاعل بعبده، هو الذي أسرى به، هو الذي أخذ بيده، هو الذي أخذ بكله، وهو الذي يأخذ بيد كل عبد صادق. وما كان الإسراء إلا معنى في الإنسان. وكان حدوثه بهذه الصورة هو إشارة لحقيقة في الإنسان. وما كان الإنسان لينال هذه المكانة إلا بفضل من الله، وبتوفيق من الله. فما كان المسجد الحرام في مدلوله الإشاري إلا قلب الإنسان (ما وسعتني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن) (القلب بيت الرب). وهو حال يقوم فيه الإنسان. فحين يقوم فيه ذلك الحال يكون في المسجد الحرام، ويكون بذلك أهلا لفيوضات الله ورحماته، لأنه طهر بيته للطائفين والراكعين والعاكفين، وما كل هؤلاء إلا الإنسان في تجلياته، وفي أحواله، وسكناته، وحركاته. أصبح الإنسان كله يتجه الى قلبه، يتجه الى وجوده، ويقوم في هذا القلب، ويعيش في هذا القلب. بذلك يكون قد أعد وجوده لاستقبال كل رحمات الله. فالفضل من الله والاصطفاء من الله والاختيار من الله. فيأخذ بيده الله ويسري به فقد أعد وجوده كله لهذا الحدث الجليل. ليأخذه من قيامه الى قيام أكبر، الى المسجد الأقصى ليصل الى أقصى ما يمكن أن يصل إليه في قيامه على الأرض، ويتجه في صلاته وفي دعائه الى بيت لله أكبر. فهو وإن كان قام في معنى المسجد الحرام إلا أن ذلك لا يعني أن هذا كل شيء، وإنما حين ينظر الى ما وصل إليه سوف يجد أن أمامه ما يجب أن يصل إليه أكبر. لذلك كان الإسراء الى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى، لأنك لتعرج في السماوات عليك أن تكسب قيامك على هذه الأرض، وعليك أن تحقق لوجودك معنى الحياة على هذه الأرض، وعليك أن تصل الى أقصى ما يمكن أن تصل إليه على هذه الأرض، وكل ذلك بفضل الله وتوفيقه. إن أدركت ذلك أعددت نفسك وقيامك لتكون عبدا لله. وإن أصبحت عبدا لله، فالله يفعل بك ويوفقك، ويأخذ بكل وجودك، لتكون في أقصى ما يمكن أن تصل إليه…”
تعليق:
ما أردنا أن نقوله في هذا الحديث أن كل حادثة وكل آية فيها رسالة للناس إن قرأوها تعلموا منها وإن تركوها ما كسبوها ولا عرفوها.. والإسراء ليس فقط حادثة حدثت منذ مئات السنين وإنما هي رسالة موجهة فيها من المعاني التي تعلم الإنسان أن عليه أن يعد نفسه ووجوده لله وأن يجعل قلبه بيتا لله وأن يطهر هذا البيت ليكون مسجدا حراما ويكون بذلك أهلا لرحمة الله فيأخذ بيده ويخرجه الى ما هو أفضل والى أقصى ما يمكن أن يصل إليه على هذه الأرض ليكون بذلك معدا نفسه لمعراج في الله بلانهاية.
مفاهيم دالة :
١٠٨ - العيد هو تعبير عن انتصار الإنسان في حياته الأرضية على ظلام جهله عن نفسه وعن العالم المحيط به وعن قدرته أن يوصل معرفته عن الحياة لمن حوله
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/٣/٢٤
”… تكبيرات نبدأ بها عيدنا مدركين أن العيد هو يوم نقوم في صلة حقية في الله. يوم ندرك أن كل حياتنا وكل قيامنا لنكون عبادا لله. نبدأ عيدنا مكبرين، داعين، حامدين لعلنا نكون فيما نقول قائمين، ولعلنا نكون قد حققنا لوجودنا ما أراد الله لنا بخلقنا، بالرسالة التي أوجدنا لها، وأقامنا من أجلها. إنا في هذا العيد وفي كل عيد نتذاكر بالمعاني التي وراءه. لنذكر أنفسنا بمعنى حياتنا، ومعنى وجودنا، مدركين أن قيامنا على هذه الأرض، وفي هذا الوقت، وفي هذا المكان، هو لحكمة أرادها الله بنا، لحكمة في كسبنا وفي ارتقائنا. فإذا تأملنا حولنا في أحوالنا، وفي أحوال أمتنا، وفي أحوال مجتمعنا، ووجدنا حال المسلمين الذين ينتمون للإسلام اسما، مستضعفين في شتى بقاع الأرض، لا من قلة بل كثرة ولكن كرغاء السيل. هل أفقنا الى الرسالة التي يريد الله أن نقرأها. إن الإسلام في تاريخه، وهو تاريخ البشرية، ما حارب المسلمون إلا ليدافعوا عن كلمة يريدون أن يقولوها ويوصلوها للبشرية. وهم الآن لا يملكون هذه الكلمة لأنهم فقدوا فطرة الحياة، فقدوا معنى الحياة، وانشغلوا بظن دينهم عن دينهم، انشغلوا عن ماهية دينهم وجوهره، الذي يقول لهم في أنفسهم قولا بليغا. فنسوا معنى الحق بهم. نسوا انهم مخلوقون ليكونوا عبادا لله، نسوا أن الجهاد لا يكون فقط بالسلاح، وإنما بالفكر والمعرفة والعلم، والبحث في أسرار الدنيا، وفي أسرار الحياة، في كل ما يملكون أن يبحثوا عنه، في كل ما يحيطون به. لا يجادلون إلا بالتي هي أحسن. العلم أفضل من الجهل، والعدل أفضل من الظلم، والجمال أفضل من القبح، والنور أفضل من الظلام، والنظام أفضل من الفوضى، والشورى أفضل من الطاغوت، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر أفضل من الفرقة، والحب أفضل من البغض، والتجمع على ذكر الله أفضل من التفرقة والاعتزاز بالنفس. فإذا نظرنا الى أمتنا وجدناها في جهل وتفرق وتكاسل وتراخي. الدين وهو جوهر الحياة لم يأخذوا منه إلا رسمه. الدين وهو نور الحياة لم يأخذوا منه إلا كسمه. الدين وهو معاني الحياة بالعلم والمعرفة لم يأخذوا منه إلا الحروف والصور. إنا في حاجة الى قوة دافعة من قلوبنا للتحرك في الاتجاه السليم، للتحرك في طريق العمل والعلم والمعرفة، لنتقن أعمالنا، للتعلم أكثر، ولنعرف أكثر، ولا نجادل إلا بالتي هي أحسن. إن الله وقد جعل لكل شيء سببا، وجعل لنا من الدعاء سببا ومن العمل سببا، فعلينا أن نتبع سببا. نعمل جادين. وندعو الله متضرعين، مدركين أن رسالتنا أن نكسب حياتنا. وكسبنا لحياتنا لا ينفصل عما نقدمه لأمتنا ولمجتمعنا. نتفاعل مع أحداثه، وندفع بالذي هو خير، بالاستقامة في العمل. وبالدعاء والرجاء، وبإصلاح أنفسنا، وبالبداية منها نتجه الى طريق الحق والفلاح. إن قمنا في ذلك حقا نكون في عيد دائم، عيد الوصلة، عيد العمل، وعيد الجهاد، وعيد الكسب في الله، وعيد الدعاء لله، وعيد الرجاء بالله. تكون فرحتنا بعيدنا أننا قد حققنا لوجدنا، وحققنا بوجودنا، ما أراد الله لنا، وما أراد الله منا بسر الحياة، وبنور الحياة. هذا معنى من معاني العيد، لعلنا نقوم فيها ولعلنا نكسبها…”
تعليق:
هذا الحديث يوضح أن العيد هو تعبير عن انتصار الإنسان في حياته الأرضية على ظلام جهله عن نفسه وعن العالم المحيط به وعن قدرته أن يوصل معرفته عن الحياة لمن حوله بالحكمة والموعظة الحسنة.
مفاهيم دالة :
١٠٩ - قضية الإنسان على هذه الأرض قضية أزلية أبدية، بدأت وأخبرنا الحق عن هذا البدء. ليس المهم متى كان هذا البدء. لكن المهم هو إخبارنا عن الهدف من التواجد على هذه الأرض
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/٤/١٥
”… قضية الإنسان على هذه الأرض قضية أزلية أبدية، بدأت وأخبرنا الحق عن هذا البدء. ليس المهم متى كان هذا البدء. لكن المهم هو إخبارنا عن الهدف من التواجد على هذه الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة) والتأمل في هذا التواجد. فكل إنسان جاء على هذه الأرض جاء بقانون التواجد وبقانون الخلق. وحين ننظر إلى تساؤل الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.. إني أعلم ما لا تعلمون)، فهذا التواجد في هذه الصورة البشرية كان معلوما للملائكة ولكنهم لا يعلمون هذه الحكمة. خلق الإنسان هو سر من أسرار الله الذي حجبه عن أي كائن آخر، فهذا التواجد الإنساني البشري وما صاحبه من حكمة ومن تصريف إلهي يقصه علينا القرآن لنتعلم قضيتنا، ولنتعلم هدف وجودنا، ولنتعلم معنى الحكمة الحقية، ولنتعلم معنى الأسباب والمسببات. فكان تواجد آدم قبل هذه الأرض لنتعلم أن التواجد يسبق هذه الذات. فقضية آدم ليست قضية إنسان في قديم الزمان إنما هي قضية مستمرة في الكون. من هنا كان تواجد الإنسان بمعناه يسبق تواجده بذاته. وتواجد الإنسان في ذاته كان لحكمة. ومن هنا ننظر إلى ما يفهمه الناس عن نزول آدم إلى هذه الأرض وأنه أخطأ فنزل إلى هذه الأرض. هذا تصور غير مستقيم للفهم في قضية آدم. فمنذ اللحظة الأولى التي خلق فيها آدم قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فكانوا يعلمون أن آدم سيتواجد على هذه الأرض ومن هنا، فتواجده في غير هذه الأرض، في عالم آخر، كان قضية تحضيرية. ولكن الهدف هو وجوده على هذه الأرض وتسببت الأسباب التي يقصها الحق عن الشجرة، وفي أنه عصى ربه فنزل إلى هذه الأرض في إطار محكم من التدبير الإلهي. هنا ندرك أن المعصية كانت في إطار قانون حقي لسبب يريده الله بالإنسان. ومن هنا ندرك أن القضية والعبرة هي في النتيجة التي يصل إليها الإنسان كمجمل في حياته الحقية ككل. لذلك نجد التعبير القرآني في وصف ما حدث بعد ذلك: (تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه..). ففي لحظة تلقيه الكلمات من ربه عرف حقيقة تواجده على هذه الأرض. هنا نتعلم أن الإنسان في ظاهر الأمر سوف يعرف أنه في معصية وأن عليه أن يتعامل على هذا الأساس (ما أصابك من خير فمن الله وما أصابك من شر فمن نفسك، قل كل من عند الله). إذن فتعاملك مع نفسك على أنه مصدر الشر، ومصدر المعصية هو استقامة في الفهم في تقييدك، واستقامة الفهم في التجريد أن تدرك أن كلا من عند الله. من هنا حين عبر القوم عن ذلك بقولهم: (ما في الجبة إلا الله) بمفهوم أنه لا موجود بحق إلا الله. هذا المفهوم لا يجب أن يتحول إلى ذات بعينها ولا يستقيم مع ما أراد قائله من قول ومن فهم. لذلك فإن الناس حين تخلط الأمور وتخلط الأوراق، تقلب القضايا؛ فتختلف المفاهيم والمعارف. أهم شيء هو الصدق في المعرفة والصدق في الواقع والصدق فيما تشهد والصدق فيما تعمل، والصدق فيما ترى. فأنت لا تستطيع أن ترى الظلام وتقول نور، وأن ترى النور وتقول ظلام. ولا تستطيع أن تقول بعد ذلك أنا لا أريد، أنا لا أرى، أنا لا أسمع، لأنك ترى وتريد وتسمع وتفعل وتقوم في ظاهر الأمر لك. كون أنك تدرك أن الله حق وراء كل ذلك بإحاطته وأنه لو شاء ربك ما فعلوه، وأنه لو أراد الله أن يخسف بك الأرض اليوم ولا يجعل لك إرادة، ولا قيام ولا وجود لخسف بك. هذا قائم وهذا حق، إنما فيما هو ظاهر لك من إرادتك، وفيما هو ظاهر لك من فعلك، وفيما هو ظاهر لك من قدرتك. فأنت قادر وأنت فاعل وأنت تريد، وكل هذا منسوب إليك (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). هذا معنى تخليف الله للإنسان لأنه جعل فيه هذا السر، سر الإرادة، وسر القدرة، وسر الفعل، وسر التدبير، وسر التخطيط، وسر العبادة، وسر العمل. جعل فيه هذه الأمانة التي أقامه بها على هذه الأرض. هذا هو دين العقلاء، دين الحكماء، دين الأتقياء، دين الذين يطلبون ويرجون المعرفة ويتعلمون ويسمعون ويشهدون.
تعليق:
هذا الحديث فيه تأمل عن قضية خلق آدم كما وردت في القرآن وعلاقتها بقضية خلق الإنسان على هذه الأرض ودوره عليها. جاء في الحديث أن هذا السرد القرآني يوضح للإنسان هدف وجوده في هذا العالم والمقصود بالهدف هنا هو الهدف المباشر بإعمال الإنسان لكل طاقاته ليغير ما بنفسه ويغير البيئة المحيطة به من أجل مواصلة الحياة في هذا العالم. أما الهدف الكلي لخلق الإنسان فلا يعلمه إلا الله.
مفاهيم دالة :
- ١-١-١٢-٢ النظر إلى تراثنا في ضوء ما كشفه لنا الاتصال الروحي
- ١-٢-٩-٣ لا تتخذ أي جماعة أربابا من دون الله في الحاضر أو في السابق
١١٠ - قضية الإنسان مع الله أن يكون عبدا له، بمعاني العبودية الحقة، التي هي فهم مستقيم في قضية الإنسان على الأرض، وفي قضية تخليف الإنسان عليها
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/٥/٣١
”… عيد الأضحى، عيد التضحية، عيد الفداء.. عيد نتذكر فيه قضية كبرى، نتذكر فيه قصة إبراهيم عليه السلام وهو يقول لإسماعيل يا بني إني رأيت في المنام إني أذبحك. رسالة من الله لإبراهيم ليعلمه أمرا حقيا، ليعلمه أن علاقته بالله أكبر، وأن عبوديته لله أعظم، أن الإنسان ليكون في طريق الله يجب أن يكن خالصا لله. فقضية الإنسان مع الله أن يكون عبدا له، بمعاني العبودية الحقة، التي هي فهم مستقيم في قضية الإنسان على الأرض، وفي قضية تخليف الإنسان على الأرض. فالإنسان على هذه الأرض هو مخلف في كل ما يملك، وفي كل ما يحكم، وفي كل ما به يأمر. كل ما يقوم به على هذه الأرض هو أدوات لكسبه ولارتقائه في الله. هذه رسالة للإنسان في كل عصر وفي كل مكان أن يكون عبدا لله، ولا يكون عبدا لنفسه، ولا يكون عبدا لولده، ولا يكون عبدا لجاه ولا عبدا لمال ولا عبدا لدنيا إنما يعبد الله ولا يشرك به شيئا. إبراهيم عليه السلام يمثل معنى العبودية لله الحقة في إيتائه للفعل الذي يرى فيه كسبه في الله وامتثاله لأمر الله. وإسماعيل عليه السلام يمثل أيضا معاني العبودية لله في تسليمه لما يقع عليه ممن يرى فيه وجه الله ورسول الله إليه (لن يؤمنوا حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). في هذا العيد نتذكر هذا الأمر ونقدم قربانا معبرين به عن فهمنا وعقيدتنا في تقديم وجودنا لله. معنى القربان نجده في كثير من الأحداث الحقية (واضرب لهما مثل إبني آدم بالحق إذ قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) لأن القضية ليست في تقديم قربان وإنما القضية في نية من يقوم بتقديم القربان. هل هو مدرك لما يقوم به أم أنه غير مدرك لذلك. وجوهر الدين أن تدرك ما تقوم به وأن تعرف ما تفعله فيتقبل منك قربانك لأنك مدرك للقانون، عارف به. إن ديننا يحدثنا في كل مناسبة وفي كل عيد. ونحن نحاول أن نستمع لهذا الحديث، لعلنا نحقق معنى الحياة الذي جاء في جميع الأديان. معنى الحياة، معنى العبودية لله، معنى الكسب في الله، أمور حياتنا ومعاشنا ودنيانا هي وسائل لكسب لنا في الله، لا نتركها هروبا، وإنما ندركها وسيلة من وسائل الكسب والارتقاء في الله. نتأمل في أحداث الحياة حولنا، ونقرأ الرسائل الموجهة لنا فنرى ظلاما قد اشتد وفسادا قد انتشر، وغربة قد اشتدت (بدء الإسلام غريبا ويعود غريبا كما بدء). الإسلام في جوهره، الإسلام في حقيقته، الإسلام كدين الفطرة ودين الحياة الذي يجذب الناس جميعا إليه، الذي يجمع الناس عليه، الذي يفتح بابه لكل طارق، الذي يقبل كل تائب، الذي يستقبل كل مفكر متدبر، لا يعوق فكره، ولا يقف أمامه، إنما يحيي فيه معنى الفكر ومعنى العقل. دين الأحسن والأقوم والأفضل، دين العلم والمعرفة، دين البحث والاجتهاد، دين العمل والجهاد، دين المحبة والألفة، دين الجمال. اصبح هذا الدين غريبا. وقد فسر الأولون الكثير من الامور التي جاء بها الدين. وفسر لاحقون ما فسر الأولون. وجاء آخرون ففسروا ما سبق. طبقات فوق طبقات وأحاديث فوق أحاديث، ومفاهيم فوق مفاهيم. تراكمت تلك الطبقات والمفاهيم فوق الجوهر السليم، وفوق المعدن الأصيل. من يريد أن يصل إلى هذا الجوهر عليه ان ينقب عنه، وان يفتش عنه، كما ينقب الناس اليوم عن المعادن في باطن الارض. عليك اليوم أن تفتش في وجودك عن معنى الحق، في فطرتك السليمة، وفي قلبك الحي، فقد تراكمت عليك المفاهيم وسمعت الكثير والكثير مما يجعلك غير قادر على ان ترى هذا الجوهر إلا بالبحث الجاد والتفتيش عنه.
تعليق:
هذا الحديث فيه تأمل عن قضية سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل عليهما السلام وما تحمله لنا من رسائل في حياتنا ونحن نقوم بشعائر عيد الأضحى. كما يتطرق الحديث إلى حال المسلمين اليوم وقد تراكمت التفاسير على مر العصور بحيث أصبح الوصول إلى جوهر الإسلام يحتاج أن ينقب الإنسان عنه في فطرته والرجوع إلى الأصل.
مفاهيم دالة :
- ٣-٢-٨-٣ الوصول إلى جوهر الإسلام يحتاج أن ينقب الإنسان عنه في فطرته مع رجوعه للأصول
- ٣-٤-٦-١ العبودية لله في إتيان الفعل وفي استقباله
- ٣-٤-٦-٣ معنى القربان هو تقديم وجودنا لله
١١١ - فهم الإنسان لآيات الله يتناسب مع مستواه، ومع صفائه، ومع قدرته العقلية والقلبية والروحية
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/١٠/٢٢
”… إن دين الفطرة هو دين الحياة، هو قانون الحياة. إن أمر الإنسان بشيء فهو يأمره لخيره، وإن نهاه عن شيء فهو ينهاه لخيره. أمر الإنسان أن يتفكر ويتدبر، لأن طاعة الله تنبع من فهمه لقانون الحياة، وتنبع من مستواه ومن قدرته، ومن علمه ومن معرفته. حين يقرأ الإنسان آية، ويتأمل في معانيها، قد يجد فهما يستريح له قلبه، وقد يجد هذا الفهم مخالفا لفهم إنسان آخر. إن فهم الإنسان لآيات الله يتناسب مع مستواه، ومع صفائه، ومع قدرته العقلية والقلبية والروحية. دين الحق يفتح أبوابه للجميع. فلا يكفر إنسان إنسانا، ولا يستهين أو يستخف إنسان برأي إنسان أيا كان. إنما يتحاور الناس بينهم بالتي هي أحسن. لذلك فإن الإنسان في قانون الحياة هو إنسان حر، عبد لله لا يعبد صورة، ولا يعبد شكلا، إنما يعبد الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وهذا مالا نراه اليوم. فالناس تعبد مفاهيم السابقين وتعبد صورا خلقتها من بنات أفكارها، وتعبد أشكالا صنعتها بأيديها وبعقولها، فإذا جاء إنسان وأراد أن يتحاور بالتي هي أحسن ما وجد له مكانا. فالناس قد استقرت على أصنامها، وأشكالها، وصورها، ومفاهيمها، وعباداتها. إن الحقيقة في جوهرها لا نهاية لها، لا شكل ولا حد لها، لا صورة ولا رسم لها. لا يستطيع أي إنسان أن يدعي أنه قد أمسك الحق بيديه، وأن الذي يقول هو الحق في لا نهائيته. إن وظيفة الإنسان أن يبحث وأن يجتهد وأن يحاول، يخطئ ويصيب، كل خطأ وكل صواب هو نسبي لما أدركه في سابق أو يدركه في لاحق. إن كل إنسان مكلف أن يعمل وأن يجتهد وأن يفكر باحثا عن الحقيقة. كل ما يدركه الإنسان على هذه الأرض قابل للتغيير لأن إمكاناته وقدراته تتغير. أما الذي يرى أنه لا داعي للتفكير والتدبير، وأنه يكفيه ما قال به السلف فقد خرج بإرادته من عبوديته لله لعبوديته لسلف…”
تعليق:
يوضح هذا الحديث قضية أساسية لازلت إلى تاريخ كتابة هذه المذكرات أثيرها وهي نسبية الحق بقدر معرفة الإنسان.
مفاهيم دالة :
١١٢ - دين الحق يصف حال الإنسان، وسلوك الإنسان، ومشاعر الإنسان، ويجيب على كل ذلك بآيات تعلمه كيف يتعامل مع هذه المشاعر، وهذه الأحاسيس، وهذه المفاهيم
تاريخ الحديث: ١٩٩٣/١٢/٢٤
”… إن في كل ما يحدث لنا عظة. وإن في كل ما نمر به كأفراد وجماعات هو تجربة نكسب فيها في الله. ويحدثنا الحق عن أحوالنا في الدنيا، ويصف لنا حالنا (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وإذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه يقول ربي أهانن). دين الحق يصف حال الإنسان، وسلوك الإنسان، ومشاعر الإنسان، ويجيب على كل ذلك بآيات تعلمه كيف يتعامل مع هذه المشاعر، وهذه الأحاسيس، وهذه المفاهيم. يدفع الإنسان بكل ما لديه من طاقات الى طريق الحق، وطريق الخير، ويعلمه أن النجاة لا تكون إلا بالاتصال والوصلة (خلق الإنسان هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين). فأنت لا تستطيع أن تعيش على هذه الأرض باستقامة إلا بوصلة مع الحق ومع الأعلى، وهذا هو معنى الصلاة. الصلاة صلة بين العبد وربه، عليك أن تقيم هذه الصلة، فبإقامتك لهذه الصلة تحصل على مدد يمكنك من مجابهة ظلام الحياة. الظلام الذي يحيط بنا من نفوس مظلمة، الظلام الذي يحيط بنا من شياطين قائمة. إنك لا تستطيع أن تكون في مجابهة كل هذا الظلام دون سند روحي ودون مدد روحي. إنك في حاجة الى قوة حقية تساندك في طريقك، وفي حياتك، إن أردت أن تكون في استقامة، وإن أردت أن تكون في الطريق الصحيح. إنك يوم تدافع عن الحق فيك، وعن الحق لك، وعن الخير الذي تراه، فدفاعك هو جهاد في الله، ومجاهدة في طريق الحياة. إن كتب لك أن تكون من المنتصرين في الخير الذي تراه فهذا كسب لك في الله، وابتلاء لك أيضا من الله. وإن خسرت معركتك مع الظلام وقد أديت واجبك تكسب الشهادة في قضيتك. تقدير الأمور يرجع دائما الى إحساسك والى قلبك، هل سوف تتجه الى قلبك والى معنى الحياة فيك لتعرف طريق الحياة؟ أم أنك سوف تلجأ الى مادي قيامك ومادي قيام من حولك لتحقق ما في نفسك؟ “
تعليق:
التفاعل مع أحداث الحياة وربطها بتعلم وتقدم الإنسان الدائم في حياته الروحية هي قضية نثيرها كثيرا في أحاديثنا.
مفاهيم دالة :
١١٣ - أهمية التفكر والتأمل والجهاد والاجتهاد باستمرار ودون توقف في كل ما يخص حياتنا بظاهرها، وبمادي قيامها، وحياتنا بباطنها، وقادم أمرها
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/١/٧
”… إن هذه الحياة هي دار كسب، ودار اجتهاد، ودار جهاد. فيها نعد أنفسنا لقادم حياتنا ولمستقبل وجودنا. هكذا يعلمنا ديننا. يعلمنا أن نجتهد وأن نبحث وأن نتعلم (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق..) (أنظر هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت). فالجهاد على هذه الأرض هو جهاد في جميع المجالات، وفي جميع الاتجاهات. جهاد لنعرف كيف نجاهد، جهاد لنتعلم، جهاد لنعمل، جهاد لنذكر ونتعبد. وفي واقع الأمر فإن كل مجال من المجالات يؤدي الى الآخر ويتفاعل معه. فالعلم هو ذكر، والذكر هو علم، والعمل يحتاج إلى علم، والعلم يحتاج الى عمل، والذكر عمل، والعمل ذكر. إنما هي أطوار للإنسان، وأحوال للإنسان يعيش فيها على هذه الأرض. مجالات من مجالاته، وأحوال من أحواله. والإنسان يتجلى بكل من هذه المجالات، فهو يتجلى بصورة العابد، ويتجلى بصورة العامل، ويتجلى بصورة العالم، وهو هو في جوهره. هذا يقرب لنا معنى وجود الإنسان على هذه الأرض. فالإنسان بسره الحقي، بسر خلقه، هو سر إلهي، هوسر الحياة، هو أكبر من هذه الذات، وهو أكبر من هذا الوجود الذي يعيشه اليوم. إنه يتجلى بهذه الذات اليوم. لكل تجلى وقت وميعاد. إن زال هذا الوقت وانتهى تجلى في صورة أخرى، وفي حال آخر، وفي قيام آخر، وفي عالم آخر (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك) (يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه). إن من الناس من يقول ولم كل هذه التأملات، الأفكار؟ يكفينا ما تعلمناه ويكفينا ما نعرفه عن الدين. هذا كمن يقول للعلماء الباحثين لماذا تبحثون في أسرار الكون؟ ولماذا تبحثون عن جسد الإنسان وأسراره؟ ولا يدري هؤلاء أن من نتيجة بحث العلماء استطاعوا أن يتغلبوا على كثبر من المصاعب التي يواجهها الإنسان في حياته. فقصار النظر الذين لا يرون إلا عند أقدامهم ينظرون الى عاجل أمرهم، والى دنيا وجودهم، وينسون أن العلم مطلوب في كل صورة، وأن طالما هناك حياة فهناك بحث عن المعرفة، وطالما هناك إشارات عن هذه المعرفة فهناك حاجة لمعرفتها، وطالما هناك قانون يحكم، فهناك حاجة لمعرفة هذا القانون. لذلك فإن ديننا يحضنا على المعرفة والعلم في كل صورة لما يخص حياتنا بظاهرها، وبمادي قيامها، وبما يخص حياتنا بباطنها، وقادم أمرها…”
تعليق:
يركز هذا الحديث على أهمية التفكر والتأمل والجهاد والاجتهاد باستمرار ودون توقف في كل ما يخص حياتنا بظاهرها، وبمادي قيامها، وحياتنا بباطنها، وقادم أمرها. لم يتناول الحديث بشيء من التفصيل المقصود من الاجتهاد فيما يخص حياتنا الباطنية. وأعتقد أن المقصود هو التأمل فيما جاء بالكتب السماوية وما أمرت به ونهت عنه بصورة أعمق وأشمل مما جاء به السلف وعدم التقيد بآرائهم بظن أنهم أعلم بالدين.
مفاهيم دالة :
١١٤ - العيد الحق يوم يرى الإنسان أنه استطاع أن يكسب جولة مع نفسه المظلمة، وأن يحقق كسبا في طريق الحياة
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/٣/١٧
”… الحمد لله الذي جمعنا وجعل لنا من أيامنا يوما نتذكر فيه معنى الوصلة ومعنى العيد. فالعيد هو تعبير عن معنى تحقيق الوصلة بالله التي نرغب جميعا أن نقوم فيها. فهذا اليوم يأتي بعد شهر الصوم، شهر الجهاد والمجاهدة، شهر الكسب في الله، شهر التعرض لنفحات الله، شهر التخلق بأخلاق الله، شهر إعداد الإنسان لنفسه ليكون أهلا لكلمات الله. يجيء بعد ذلك العيد معبرا عن فرحة الذين وصلوا واتصلوا، وحققوا لأنفسهم ما أرادوا بأن يكونوا عبادا لله، وبأن يكونوا أهلا لرحمة الله. إننا دائما نتذاكر في هذا اليوم بهذا المعنى، ونذكر أنفسنا به، فهذا هو معنى العيد حقا. نتذكر في هذا اليوم حالنا وحال أمتنا لنعرف أين نحن من هذه المعاني، ولنحاول جاهدين أن ندركها، وأن نكسبها. دين الفطرة يعلمنا أن الحياة هي مرحلة كسب، وأن الإنسان على هذه الأرض عليه أن يكون متوجها لربه، وأن يكون سائلا ربه، وأن يكون مدركا لهذا القانون، مدركا لمعاني الحق والحياة، مدركا أن حياته هي لله بقدر سعته (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). فهل أدرك ما في وسعه، هل نظر الى إمكانياته وقدراته وطاقاته، أم أنه يغمض عيناه عن هذه المعاني، لا ينظر الى ما فيه من قدرات لأنه مشغول بخارجه، مشغول بمن حوله، لا يعكس البصر الى داخله، ولا يعكس البصر الى قلبه، ولا يتجه الى الله بالدعاء حتى يكشف له ما في داخله (كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). إنه لو طلب هذا المعنى ليكشف الله له عما فيه من طاقات وقدرات لاستطاع أن يعمل الإنسان الكثير (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). فيحاول الإنسان أن ينظر الى أعماقه ليبصر ما لم يكن يبصره. والعبادة بكل صورها تحاول أن تشد الإنسان مما هو محيط به من خارجه الى ما يحيط به الإنسان في قلبه. إن الكسب الحقي هو الكسب الذي يبقى في الإنسان وليس ما يكسبه الإنسان في خارجه. لن يبقى مع الإنسان في رحلته الأبدية إلا ما حصله في وجوده، ما هو موجود في وجدانه، في معنوياته، في قلبه وعقله. إنه زاده الذي سيحتاجه معه في رحلته الحقية. لذلك فإنه يجب علينا جميعا أن نقف لحظة ونقوم أنفسنا، ونعرف أين نحن من هذه المعاني، ونعرف أين مجتمعنا من هذه المعاني. هل نحن فيها حقا قائمون أم أننا غير مدركين لهذه القيم الحقية. إن الإنسان في المجتمع هو لبنة من لبناته عليه أن يصلح هذه اللبنة التي هي وجوده، وبإصلاحه لها سيكون قد أدى دوره، ويكون بذلك مثلا لآخرين يحذون حذوه، ويتجهون اتجاهه ويقصدون مقصده، ويطلبون طلبه. إصلاح الإنسان لنفسه باتجاهها الى الله بالدعاء، وبتعرضه لنفحات الله في الجمع، وفي كل وقت وحين، يعطيه دفعة ليكون عبدا لله صالحا. إن المفهوم الحقي لن يجيء للإنسان وهو غير معرض وجوده لنفحات الله (إني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعاني) (أدعوني أستجب لكم) (من تقرب الى باعا تقربت إليه ذراعا ومن جاءني مشيا جئته هرولة). فالبدء من الإنسان، عليه أن يتحرك في طريق الحق خطوة ليتأهل بذلك بأن ينال رحمات الله وكرم الله وعلم الله وحكمة الله. فالعيد الحق هو كل لحظة صدق يرى الإنسان فيها وجوده وقد تحقق، يرى فيها الإنسان وجوده وقد كسب في الله مكسبا، وخطا خطوة، في طريق الحق وطريق الحياة. كل إنسان على نفسه بصير، يعلم ما فيه من تقصير، وما فيه من ذنب، وما فيه من غفلة، وما فيه من ظلام، فعليه أن يعكس البصر الى داخله، ويحاول أن يصلح ما فيه من ظلام، وأن يغير ما فيه من باطل (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). إن العيد الحق للإنسان هو يوم يرى أنه استطاع أن يكسب جولة مع نفسه المظلمة، واستطاع أن يحقق شيئا في طريق الحيا ة، بأن قوم نفسه وهداها الى الصراط المستقيم…”
تعليق:
ربط هذا الحديث بين ما يرمز له العيد وبين تعرض الإنسان لنفحات الله التي تساعده على فهم ما يستطيع أن يقوم به نفسه ويصلحها. فعرف العيد الحق بالنسبة للإنسان أنه يوم يرى أنه استطاع أن يكسب جولة مع نفسه المظلمة، واستطاع أن يحقق شيئا في طريق الحيا ة.
مفاهيم دالة :
١١٥ - كل العبادات تحثكم على أن تتواجدوا في عالمكم الحقي الداخلي، وأن تفتشوا عن الحقيقة فيكم، فهي التي ستهديكم، وهي التي ستنير الطريق أمامكم
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/٦/١٧
”… إن دين الفطرة يقول لكم في أنفسكم قولا بليغا، فيعلمكم ويخبركم أن بكم أمانة الحياة، وأن بكم سر الله، وأن بكم نور الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). يقول لكم ذلك حتى تشحذوا هممكم، وتعملوا عقولكم، وتذكروا بقلوبكم، وتجاهدوا بجوارحكم حتى تروا ما أخبركم الله به أنه في نفوسكم. إن كنتم لا تبصرون فهناك من يبصر. وإن كنتم لا تسمعون فهناك من يسمع. وإن كنتم لا تؤمنون فهناك من يؤمن. وإن كنتم لا تطلبون صلة فهناك من يطلب. وإن كنتم لا تتعاملون مع الله فهناك من يتعامل. وإن كنتم لا تشهدون أن لا إله إلا الله فهناك من يشهد. وإن كنتم لا تشهدون أن محمدا رسول الله فهناك من يشهد. وإن كنتم لا تحبون لقاء الله فهناك من يحب. إن دين الفطرة يعلمكم أن فيكم أسرارا كثيرة، وأن بكم آيات كثيرة. فاجتهدوا لتروها، اجتهدوا لتسمعوها، اعكسوا البصر الى داخلكم، واعكسوا السمع الى داخلكم، حتى تبصروا وحتى تسمعوا ما أوجد الله في وجودكم. إن هذا ما يمكن أن تقوموا فيه وأنتم تؤدون عباداتكم. فأنتم في حياتكم اليومية تسمعون خارجكم، وتشهدون خارجكم، وقد ينقضي الوقت كله، وتنقضي حياتكم كلها، وأنتم لم تعطوا الفرصة لأن تسمعوا ما في داخلكم، وأن تبصروا ما في داخلكم. إن كل العبادات تحثكم على أن تتواجدوا في عالمكم الحقي الداخلي، وأن تفتشوا عن الحقيقة فيكم، فهي التي ستهديكم، وهي التي ستنير الطريق أمامكم. إن لم تسمعوا صوت الحق من داخلكم، وصوت الخير من داخلكم، وصوت الاستقامة من داخلكم، وصوت الدين من داخلكم، فلن تقوموا في الدين حقا. لذلك فإن عليكم أن تجاهدوا وتجتهدوا لتقيموا صلة مع الحق القائم فيكم (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). لقد ألهمكم الله تقواها فأقيموا صلة مع هذا الذي أقام الله فيكم. أقيموا صلة مع تقوى نفوسكم ولا تقيموا صلة مع فجورها. هذا هو دوركم إن كنتم تريدون أن تكونوا من الذين زكوا نفوسهم. أما إذا كنتم تريدون أن تكونوا فيمن دساها فخاب فستقيموا صلة مع فجورها. لن تسمعوا إلا الى الفجور، ولن تذهبوا إلا الى كل فاجر طاغية. أما إذا أردتم وقامت فيكم نية صادقة، ورغبة خالصة، في أن تكونوا عبادا لله فسوف تلجأون الى داعي الحق، والى دعوة الحق في أي مكان تجدوها، وفي أي زمان تشهدوها، وهذا فضل الله على الإنسان أن يهيئ له ذلك، وأن يسبب الأسباب حتى يقوم في ذلك. فالذي يعرف معنى العبودية لله هو الذي سوف يكون في طريق الرحمن، أما الذي طغى وتكبر، وأبى واستكبر فسيكون في طريق الشيطان. يعلمنا الحق إذا كنا نرغب في طريق الله ونجاهد أنفسنا في طريق الله فلنحاول أن نكون أكثر صدقا وأكثر عملا لأننا إن لم نكن كذلك فسوف نكون بين حالين وسوف نكون بين طريقين. طريق الأشقى الذي كذب وتولى، وهذا طريقه التردي في الهاوية (أنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى). أما طريق الأتقى الذي يقصد وجه ربه الأعلى ويطمع في رحمته (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى). إنك اليوم في مفترق الطريق، وعليك أن تختار، وعليك أن تحدد ماذا تريد، وماذا تطلب، وماذا تقصد. فاستعن بالله وتوكل على الله حتى تكون من الذين يختارون طريق الحق والحياة، وتكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتكون من الذين أعطوا واتقوا وصدقوا بالحسنى، وتكون من الذين ذكروا اسم ربهم فصلوا، ومن الذين يبتغون وجه ربهم الأعلى، في كل أعمالهم، وفي كل أحوالهم، حتى تكون من الناجين الفائزين…”
تعليق:
في إطار الفهم عن دين الفطرة تطرق الحديث إلى قضايا متعددة منها مقصد من مقاصد العبادات وهو اتجاه الإنسان لداخله ليستمع إلى صوته الداخلي ويبصر ما في داخله وكذلك تأمل في الآيات التي لها علاقة برقي الإنسان إلى أعلى عليين أو ارتداده إلى أسفل سافلين.
مفاهيم دالة :
١١٦ - كسب الإنسان يتناسب مع استعداده، ومع صفائه، ومع فهمه، تناسبا طرديا. كلما زاد فهمه، وكلما زاد صفاؤه، وكلما زاد حبه، وكلما زاد استقباله، كلما تعلم أكثر، وكلما أدرك أكثر
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/٧/٢٢
”… (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن ذلك غافلين) حين نتأمل في هذه الآية لا نستطيع أن نحيط بها بظاهر عقولنا. ولكنا أخبرنا بها لنتأمل فيها، ولنتذاكر بمعانيها تجريدا وليس تقييدا، ذكرا وليس سردا. فهي توحي لنا بأن الإنسان كان قبل أن تكون هذه الأرض، أو قبل أن يكون على هذه الأرض. وهذا هو معنى تواجد الإنسان قبل هذه الأرض في صورة أخرى غير هذا الجسد. أشهدهم على أنفسهم، أشهدهم على وجودهم، أخبرهم ما سيكونون عليه في إشهادهم لوجودهم، ورأوا حقا وشهدوا حقا معنى الربوبية عليهم (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا). شهدنا أنك ربنا، شهدنا معنى الربوبية علينا، شهدنا ما أوجدتنا من أجله. وأشهدهم أيضا أنهم قد يغفلون عن ذلك، وأخبرهم أنه أودع فيهم قدرة وطاقة ستمكنهم أن يتذكروا هذا العهد (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). فتواجد الإنسان على هذه الأرض هو تواجد فيه طاقة حقية، طاقة نورانية، طاقة روحية، يتواجد بها، كما يتواجد من خلال ذات فيها معان ظلمانية، لحكمة حقية، حتى يستطيع أن يقوم على هذه الأرض، ويتعامل عليها. إن كل الرسالات السماوية جاءت لتخاطب هذا المعنى الحقي في الإنسان. جاءت لتذكره بهذا العهد الذي عاهد الله عليه. جاءت لتعلمه كيف يكون قياما حقيا، جاءت لتوقظ فيه هذا المعنى الروحي لتساعده حتى لا تكون ذاته سببا في أن يكون من الغافلين، أن يكون من الناسين، أن يكون من المرتدين الى أسفل سافلين. (ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) فالتذكير هنا دلالة على أن هذا المعنى موجود في كل إنسان، ولكنه يحتاج لمن يذكره، ولمن يكشف له عما في وجوده، وعما في فطرته من أ سرار الحياة، والصلاح يكون من داخل الإنسان، وليس من خارجه. إن الصلاح في يقظة الإنسان في داخله وإدراك معاني الحق، ومعاني الحياة، وألا يكون غافلا عما فيه من أسرار الحياة. اعلموا أن هذا هو حالكم اليوم كما كان حال كل إنسان على هذه الأرض، إنه حال الإنسان اليوم كما كان حال الإنسان بالأمس، وكما سيكون حال الإنسان بالغد. نعمة الله بالإنسان، ورحمة الله بالإنسان، وكرم الله بالإنسان، وفضل الله على الإنسان أن يرسل له من يذكره، ومن يعلمه، ومن يقول له في نفسه قولا بليغا. كسب الإنسان يتناسب مع استعداده، ومع صفائه، ومع فهمه، تناسبا طرديا. كلما زاد فهمه، وكلما زاد صفاؤه، وكلما زاد حبه، وكلما زاد استقباله، كلما تعلم أكثر، وكلما أدرك أكثر…”
تعليق:
تأمل في آية العهد وربطها بحياة الإنسان على الأرض وما أودع الله فيه من سر الحياة
مفاهيم دالة :
١١٧ - تغييرنا لما في أنفسنا يجب أن يكون ملموسا لدينا، محسوسا عندنا، نرى فيه ما يقربنا الى الله، وما يجعلنا أهلا لرحمة الله، ولنعمة الله
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/٩/٣٠
“…إنا نتعلم مما يحدث لنا في حياتنا، نتعلم مما يقول الناس، ومما فيه يتجادلون. نتعلم كيف نفكر، وكيف نتعامل مع الأحداث، ومع الأفكار وأين نحن من هذه الأفكار. نتعلم كيف تكون الحياة والإنسان فيها يتغير. يتغير حاله وقيامه، فهل يتغير فهمه وإدراكه في معاني الحياة؟ هل يثقل هذا الفهم؟ أم أنه يظل تفكيرا محدودا لا يتناسب مع إدراك الإنسان الذي كبر، وأدرك أمور الحياة. إن دين الفطرة يعلمنا كيف نكون في تفاعل دائم مع الأحداث، والمفاهيم، ومن هذا التفاعل نتغير ونتبدل، نرقى ونتعمق. فإذا كنا في مرحلة ما، نرى الدنيا تحول بيننا وبين الرقي، نرى فيها ما يجعلنا نبتعد عن ذكر الله، فهل يظل الأمر كذلك؟ أم أننا في مرحلة أخرى ربما نصل الى حال تكون فيه الدنيا وسيلة لكسب لنا في الله. تغييرنا لما في أنفسنا يجب أن يكون ملموسا لدينا، محسوسا عندنا، نرى فيه ما يقربنا الى الله، وما يجعلنا أهلا لرحمة الله، ولنعمة الله. إن المفهوم في الدين، وفي علاقتنا بالحياة، في علاقتنا بالدنيا، وعلاقتنا بالآخرة، وعلاقتنا بنفوسنا، وفي علاقتنا بمجتمعنا تتغير وتتبدل وتنمو إذا كنا متفاعلين مع الوجود، ومتفاعلين مع الحياة، بحيث يتبدل مفهومنا، ويتغير كل يوم الى معنى أقرب الى الحقيقة، الى معنى أعمق، والى معنى أقوم. فلا تنظروا إلى الدين، وإلى المفهوم في الدين، على أنه أمر ثابت إنما هو يتفاعل معك، ويتفاعل بك، ويتفاعل مع قدرتك على الوصلة وعلى التعمق والتفهم لقضايا الحياة. فتفكروا دائما، وتأملوا دائما، وتعمقوا دائما، واعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فغيروا ما بأنفسكم دائما حتى يغير الله ما بكم الى ما هو أفضل، والى ما هو أقوم…”
تعليق:
الإنسان في هذه الحياة متغير نتيجة لتفاعله مع هذا الكون ومع داخله. وكلما كان تفاعله فيه صدق وحياة كلما تقدم خطوة الى الأمام. يغير دائما ما في نفسه حتى يغير الله ما به. وهذا هو قانون الحياة. كل مفهوم قابل لأن يتعمق فيه الإنسان. فما تراه اليوم قد ترى غيره غدا. قدرتك على أن تنفذ الى أعماق المفهوم تتغير من لحظة الى أخرى.
مفاهيم دالة :
١١٨ - من هو الإنسان؟ هل الإنسان هو العقل؟ أم القلب؟ أم الذات؟ إنه السر وراء كل ذلك، إنه سر الله، إنه روح الله، إنه كلمة الله، إنه الذي يجعل العقل يدرك، والقلب ينبض، والذات تتحرك
تاريخ الحديث: ١٩٩٤/١١/٢٥
”… إن حديثنا يدور حول الإنسان، حول وجوده على هذه الأرض، ما جاء من أجله، وماذا يفعل ليحقق هدف. كيف يتعامل مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع كونه. دين الحق يوضح لنا ذلك فيحدثنا عن تعامل الإنسان مع نفسه، وماذا يفعل بوجوده، وبنعم الله التي أنعم بها عليه. يحدث الإنسان الذي هو وراء هذا الوجود المادي. نقول ذات الإنسان، وعقل الإنسان، وقلب الإنسان، فمن هو الإنسان؟ هل الإنسان هو العقل؟ أم القلب؟ أم الذات؟ إنه السر وراء كل ذلك، إنه سر الله، إنه روح الله، إنه كلمة الله، إنه الذي يجعل العقل يدرك، والقلب ينبض، والذات تتحرك. إنه الإرادة، إنه الرغبة (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله). إنه الذي يجعل الإنسان يرى ولكنه لا يرى (يلحق الأبصار ولا تلحقه الأبصار وهو اللطيف الخبير). إنه تجلي الله على هذه الأرض (خلقتك لنفسي ولتصنع على عيني). لذلك فالحديث لهذا المعنى. هذا المعنى يستخدم هذا الجسد بكل أسراره لفترة هي التي نقول عليها حياة الإنسان. دين الحق يعلمنا ذلك (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الحديث موجه الى الإنسان يقول له أنظر الى هذه النفس التي أنت مخلف عليها، ماذا تجد فيها؟ ماذا ترى فيها؟ أترى فيها حب الدنيا وشهواتها؟ أترى فيها ظلام الدنيا وغفلتها؟ لقد أعطيتك هذه النفس لتصلحها. وبإصلاحك لها تكسب كثيرا، وتنطلق في طريق الحق والحياة. فهل أنت مغيرها؟ أم أنك ستتبعها؟ هل أنت مصلحها؟ أم أنك ستستسلم لها؟ لن يغير الله ما بك إلا إن غيرت نفسك. أعطيتك الإرادة، وأعطيتك القدرة، وأعطيتك نعمي، فلتستخدم كل هذا ولتحاول أن تصلح بما علمتك أنه الخير، وكشفت لك عن الخير فيما أودعت فيك من سري (خلقتك لنفسي ولتصنع على عيني). كذلك يعلمنا ديننا كيف نتعامل مع مجتمعنا (ذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى) (قل لهم في أنفسهم قولا بليغا) (عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). كما يوضح لنا دين الحق كيف نتعامل مع كوننا (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدء الخلق) (أنظر هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض..). إن التفكر لا يعني أن تقف أمام خلق السموات والأرض متعجبا إنما أن تحاول أن تدرك بقدر ما تستطيع أسرار الحياة حولك…”
تعليق:
يركز هذا الحديث على توضيح كيف كشف لنا ديننا عن كثير من أسرار الحياة وعلمنا كيف نتعامل مع أنفسنا وكيف نتعامل مع مجتمعنا وكيف نتعامل مع كوننا. دين الفطرة في الإنسان، في خلقته وفي صبغته، في صفائه ونقائه، في نور عقله وحياة قلبه، في كلمة حق يسمعها، وفي لمحة حق يشهدها، فيتغير إلى الأحسن والأقوم.
مفاهيم دالة :
- ١-٢-١٣-٤ أعطى الله الإنسان إرادة وقدرة على التغيير
- ٣-٥-٣-٣ إدراك الإنسان بقدر استطاعته لأسرار الحياة حوله
١١٩ - الدين وأوامره يوضح أسباب الحياة الحقية. فحين تؤمر بالقيم المعنوية فأنت تخبر بأسباب حياتك الروحية
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/١/١٣
”… إن دين الفطرة يعلمنا أن الله قد تجلى في الكون بقانونه. جاءت الأديان لتعلم الإنسان هذا القانون. وتجلى هذا القانون في أسباب الحياة ما ظهر منها وما بطن. ما ظهر منها عرفناه أو لا زلنا نحاول أن نعرفه. وما بطن منها هو غيب علينا. وما كان الدين وأوامره إلا أسباب الحياة الحقية. فحين تؤمر بالقيم المعنوية فأنت تخبر بأسباب حياتك الروحية. وأنت وما فيك من سر الله تحدد ما تحب أن تكون عليه (كن كيف شئت فإني كيفما تكون أكون) (كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم). ماذا تحب أن تكون؟ وماذا تريد أن تكون؟ هل تريد أن تكون حجرا في بناء تبنيه؟ أتريد أن تكون جزءا في آلة تصنعها؟ هل تريد أن تكون إنسانا حيا؟ إن كنت تريد أن تكون حيا فاسلك طريق الحياة. الطريق الذي يكبر ما فيك من قيم ومعاني (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر). إن الدين هو الحياة بكل ما فيها، بكل أعمالها، وبكل أمورها، وبكل مشاغلها. إن تعاملت مع الله فأنت تكسب في الله، وإن تعاملت مع الدنيا فستكون حجارة أو حديدا. فهدفك في الحياة، ومقصودك في الحياة، وقبلتك هي التي تحدد ما ستكون عليه، وما ستؤول إليه. إن معنى القبلة التي نتجه إليها هو لتتذكر ذلك دائما، ما هي قبلتنا، وما هو هدفنا، وما هو مقصودنا. المقصود هنا أن نقيم علاقة بالدنيا، أم نقيم علاقة مع بيت الله. هل نريد أن يكون مددنا من الدنيا، أم يكون مددنا من الله متجليا ببيته. فالله يتجلى بالأعلى والأدنى لأن الله من وراء كل شيء بإحاطته. فهل تريد أن تكون في علاقة ببيت الله. أم تريد أن تكون في علاقة بما هو أدني. إن ذلك يرجع الى كل إنسان، يرجع الى ما حصله، والى ما كسبه. ماذا يريد أن يكون، ماذا يطمع أن يكون. فعلى كل منا أن يتجه الى داخله ويسأل داخله ماذا يريد أن يكون، وماذا يطلب أن يكون، وماذا يحب أن يكون (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا). إن الإنسان بوجوده على هذه الأرض، وبما فيه من فطرة الحياة، وسر الله، وأيضا بوجوده في هذه الذات ، وما لها، وما فيها من شهوات ومتطلبات، عليه ألا يستغرق في تلبية متطلبات ذاته، وينسى الهدف الرئيسي الذي جاء من أجله الى هذه الأرض، وهذه هي الذكرى، وهذا هو التذكير (إن الذكرى تنفع المؤمنين)، يذكرون بما فيهم (قل لهم في أنفسهم قولا بليغا)، يذكرون برسالتهم، يذكرون بهدفهم، يذكرون بعهدهم (إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ألستم بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). إن أدركنا هذه الحقيقة وتعلمناها، وأدركناها، لعرفنا أن علينا اليوم أن نكون متذكرين عهدنا، متذكرين قبلتنا، متذكرين طريقنا، متذكرين معنى الحق لنا، ومعنى الحق فينا، شاهدين أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، مجتمعين على ذكر الله، سائلين الله، داعين الله، مستقبلين دائما قبلتنا، منها نأخذ مددنا، ونأخذ زادنا، حتى نكون حقا عبادا لله… ”
تعليق:
جاءت الأديان لتعلم الإنسان قانون الحياة وتجلى هذا القانون في أسباب الحياة ما ظهر منها وما بطن. ما ظهر منها عرفناه أو لا زلنا نحاول أن نعرفه. وما بطن منها هو غيب علينا. وما كان الدين وأوامره إلا أسباب الحياة الحقية.
مفاهيم دالة :
١٢٠ - الإنسان وحدة وجود، وبذرة حياة، ومشروع خلق، فيه كل مكونات الحياة، فيه البذرة وزارعها، فيه العالم والمتعلم، فيه الصانع والأداة ومادة الصنع، فيه العقل والقلب والذات
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/٥/٣١
”… إن الإنسان وقد خلقه الله على هذه الأرض فسواه وقدر فهداه (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). إنها قدرة الله اللانهائية التي خلقت الإنسان فجعلته قياما مكتفيا بوجوده، أوجد الله فيه من قدرة حقية وسر إلهي، فكان الإنسان بذلك وحدة وجود، وبذرة حياة، ومشروع خلق، فيه كل مكونات الحياة، فيه البذرة وزارعها، فيه العالم والمتعلم، فيه الصانع والأداة ومادة الصنع التي يشكلها، فيه العقل والقلب والذات (وفي أنفسكم أفلا تبصرون). إن الناس في كل زمان ومكان لما في أنفسهم لا يبصرون، حتى يجيء لهم من يعلمهم كيف يرجعون البصر الى داخلهم، وكيف يبصرون ما في أنفسهم (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). لذلك جاءت الرسالات السماوية لتكشف للإنسان عن سره، ولتعلم الإنسان عن وجوده، ولتبصر الإنسان عما فيه من أسرار الحياة. الرسالات قد تجيء من خارج الإنسان وقد تجيء من داخل الإنسان. ولنا في قصص الأنبياء ورسله عبرة وعظة. فكل الأنبياء والرسل جاءت لهم في البداية الرسالة من داخلهم. رفضوا الظلام الذي كان يحيط بهم، غير متبعين ما كانوا يرونه حولهم. بحثوا عن الحق في أنفسهم وفي كل ما يحيط بهم. حتى إذا وصلوا الى طلب اليقين، وأحسوا بحاجتهم الى العليم الخبير، جاءت لهم رسالة الحق بالروح الأمين، تعلمهم وتخبرهم عن وجودهم وقيامهم. وكانوا بدورهم رسل الله للطالبين إذا دعوا الى الله، فأجابهم الذين أعدوا لذلك من داخلهم، ووجدوا في دعوة الرسل ضالتهم التي كانوا عنها يبحثون ولها يطلبون (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). فالإنسان في حاجة الى من يذكره، فالذكرى تنفع المؤمنين. الإنسان يبحث عمن يذكره. فمعنى العالم فيه يبحث، ويطلب، ويتعلم، ويدرك كل يوم علما جديدا يذكره بمعاني الحياة. ويجعله ذلك أكثر طلبا وأكثر دعاء وأكثر إيمانا. يطلب الغيب، ويؤمن به، ويدرك أنه في حاجة دائمة الى صلة بأعلاه. وإنه إذا كان قد جعل الله فيه قدرة فإن هذه القدرة تنمو وتقوى بصلته بالله، وإنها تضمحل وتتلاشى ببعده عن ذكر الله، وإن لا حول ولا قوة إلا بالله، وإن التوفيق من عند الله، وإن الفضل لله، وإن العطاء لله، وأن يلجأ الى الله، وأن يطلب عون الله بإقامة صلة بينه وبين الله (يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد). هؤلاء الباحثون يعلمون أن عليهم أن يعرضوا وجودهم لنفحات الله، وأن يحتسبوا كل تعاملاتهم مع الله، وأن يكون هدفهم ومقصودهم وجه الله. وأن يعرفوا أن كل ذلك لا يكون إلا بأن يتجهوا ويستقبلوا قبلة الله التي ارتضاها لهم (إنا نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها). القوم وقد أدركوا ذلك فخاطبوا رسول الله وخاطبوا الله معبرين عن إدراكهم وفهمهم هذا بقولهم (فكان غيبا من غيبك وبدلا من سر ربوبيتك حتى صار بذلك مظهرا نستدل به عليك. فكيف لا يكون كذلك وقد أخبرتنا بذلك في محكم كتابك بقولك إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله. فقد زال عنا بذلك الريب وحصل الانتباه) (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). كما أمرنا ديننا كذلك، وعلمنا كيف نكون أمرا وسطا فلا يكون اتجاهنا كله الى الأعلى، وإنما أيضا كيف نتجه الى الأدنى، وكيف أن عطاء الله لنا مرتبط بعطائنا للناس. كيف يكون الإنسان عروة وثقى وأمرا وسطا يربط بين الأعلى والأدنى. كيف أنه كما يريد أن يأخذ ويتلقى عليه أن يعطي ويمنح. إذا أراد خيرا عليه أن يريد الخير للناس جميعا. بهذه المعاني والقيم الحقية جاء ديننا ليعلم الناس جميعا كيف يكونوا عبادا لله، وكيف يكسبوا وجودهم في هذه الحياة. فهل أدركنا رسالة الحق لنا، وهل عرفناها، وهل قمناها، وهل صدقناها. أم أننا أخذنا من الأمور مظهرها، ومن الجواهر قشرتها، ومن الأعماق سطحها، ومن المعاني شكلها. فللشكل عبدنا، وللظاهر أكبرنا، وللقشرة قدرنا، بظن دين، وبظن يقين. والدين ما عرفنا، والحق ما اتبعنا، فأصبح ديننا غريبا بيننا. لعلنا نرجع الى الحق، ونعرف ديننا، ونقوم حقا فيما أمرنا، لنكون أهلا لديننا ولنكون عبادا لله صالحين…”
تعليق:
عن خلق الإنسان كان هذا الحديث. خلق الله الإنسان فجعله قياما مكتفيا بوجوده، فكان الإنسان وحدة وجود، وبذرة حياة، ومشروع خلق، فيه كل مكونات الحياة، فيه البذرة وزارعها، فيه العالم والمتعلم، فيه الصانع والأداة ومادة الصنع، فيه العقل والقلب والذات. جاءت الرسالات السماوية لتكشف له عما فيه من أسرار وقوانين حتى يحقق هدف وجوده.
مفاهيم دالة :
١٢١ - الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام كان لنتعلم كيف أنه في ظهور أمر الحق مباشرة، لا تكون لظاهر الإرادة دور تلعبه، ولنتعلم أيضا، أنه لن يكون في نهاية الأمر إلا ما يعقله الإنسان بظاهر إرادته
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/٥/١٠
”… هذه الآيات عن سيدنا إبراهيم عليه السلام (يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك) هي أمر إشاري لنتعلم منه اليوم. نتعلم كيف يكون الإنسان خالصا لله، لا يرى لوجوده وجودا مع الله، وإنما يدرك تماما أن كل شيء لله، يشهد حقا أن لا إله إلا الله. هذا أمر تجريدي يفهمه الإنسان بقيامه الحقي، ولكنه في حياته الأرضية له ظاهر إرادة تجعله يفعل هذا ولا يفعل ذك. الأمر الحقي هو أن يشعر الإنسان بأن كل شيء لله. فإذا كان عليه أن يفعل ويختار على هذه الأرض فليفعل بما يرى أنه الخير في حدود قدرته وفي حدود رؤيته. هذا الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام كان لنتعلم كيف أنه في ظهور أمر الحق مباشرة، لا تكون في هذه اللحظة لظاهر الإرادة دور تلعبه، وفي نفس الوقت لنتعلم أيضا، أنه لن يكون في نهاية الأمر إلا ما يعقله الإنسان بظاهر إرادته (ففديناه بذبح عظيم). كذلك نتعلم من هذه الآيات معنى آخر هو كيف يتخلص الإنسان من ذاته الدنيا، ليكسب قيامه الحقي وقيامه النوراني (أقتلوا أنفسكم فتاب عليكم). نتعلم أيضا كيف يتقرب الإنسان من الله (واضرب لهم مثل إبني آدم بالحق إذ قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر). إن القربان في معناه الحقي هو ما تفعله لتقترب من الله. فالرب ليس في حاجة الى تقديم شيء ليرضى. إنما أنت الذي تكسب من قربك، وهذا رضاؤه بالنسبة لك. أنت الذي تريد أن تتخلص من أوزارك، وتتخلص من ظلامك، حتى تكون وجودا نورانيا، يستطيع أن يكون أهلا لرحمة الله ونفحته، ولكرم الله ونعمته. إن هذه الأيام تذكرنا بهذه المعاني لنتذاكرها بيننا ولنحاول أن نقوم بها حقا وأن نقوم فيها صدقا. أن نجتهد خالصين أن نقترب أكثر من معنى الحق فينا، وأن نقترب أكثر من معنى الحق علينا، بإخلاصنا، وبتخلصنا من ذواتنا بظلامها. وإن كان لذواتنا وجود يبقينا على أرضنا، فلا تكون مالكة بناصية أمرنا، وإنما تكون مستجيبة لأمر حقنا (كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم فهو لا يأمرني إلا بخير). إن كل مناسبة نحتفل بها هي تذكير لنا، وحديث دائم من الله على مر العصور والأزمان، سيظل يخاطب الإنسان بقضايا وقضايا يتأملها الناس في كل عصر، وليدركوا منها بعضا مما تحمله لعلهم يفلحون، ولعلهم الى ربهم يرجعون، ولعلهم للحق فيهم يكتشفون وله يشهدون. وهذا ما نطمع فيه، أن نكون من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون ذاكرين متذكرين، متدبرين متأملين، عاقدين العزم والنية أن نكون في عباد الله الصالحين، وأن نكون من عباد الله الخالصين، وأن نكون حقا لمعنى القربان مقدمين…”
تعليق:
هذا هو الحديث الثاني في هذه الفترة عن معاني عيد الأضحى وأشار هذا الحديث أيضا إلى قضية سيدنا إبراهيم مع سيدنا إسماعيل ولكن من زاوية مختلفة تربط بين الأمر المجرد وكيف يتم تنفيذه إذا تحول إلى أمر مقيد بما نعقله على هذه الأرض. وشرح التوجيه الإلهي إلى سيدنا إبراهيم بذبح سيدنا إسماعيل هو أمر مجرد وحين تم تنفيذ هذا الأمر في الواقع المقيد تحول إلى “فديناه بذبح عظيم”. وهذه إشارة أيضا إلى أن الفعل على هذه الأرض يكتسب قيمته من المعنى الحقي الذي وراءه، وأنه إن لم يكن وراء الفعل الأرضي هذا المعنى الحقي يصبح عملا لا قيمة له. لذلك كان مفهوم النية في القيام بفعل هو أمر أساسي في كل الأفعال التعبدية. والنية أساسها الفهم لما تقوم به وبذلك يصبح كل أمر وكل فعل هو فعل حقي يوم تكون وراءه نية خالصة. ويصبح أمرا شكليا وضعيا يوم لا تكون وراءه نية خالصة.
مفاهيم دالة :
- ٣-٤-٦-٢ الامتثال لأمر الله وإدراك أن ذلك لن يؤدي إلا إلى ما نعقله
- ٣-٤-٦-٣ معنى القربان هو تقديم وجودنا لله
١٢٢ - لا يقبل الإنسان إلا ما يعقله فإذا إحتار في قضية ما، اتجه إلى الغيب بالدعاء، وأعمل كل أدواته حتى يصبح قادرا على التعامل مع هذه القضية
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/٨/١١
”… إن دين الفطرة يخاطب ما أوجد الله فينا من عقل وقلب. يعلمنا كيف نفكر بعقولنا وكيف نشعر بقلوبنا. يعلمنا منهج الحياة، وشريعة الحياة. فليست القضية أن تردد بلسانك أنك مؤمن، ولكن القضية أن تصل لذلك بعقلك وبقلبك. فما أكثر المرددين، وما أكثر المتكلمين، وما أقل المفكرين الباحثين المتأملين المتدبرين، الذين يعملون عقولهم وقلوبهم، ويتفكرون في كل ما يحيط بهم (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). إن دين الفطرة يخاطبنا، ولنستقبل خطابه يجب أن يكون ذلك من خلال إعمالنا لما أعطانا الله. إن بعض الناس يعتقدون أنهم حين يتلقون كلمات الدين، وآياته، عقولهم لا يعملون، لأنه لا إعمال للعقل مع الدين. وهذه مقولة خاطئة لأنك لا تستطيع أن تفهم مجرد الكلمات ودلالتها إلا بإعمال عقلك، والبحث في ذاكرتك عما تعني كل كلمة بالنسبة لك. وعما يعني تركيب هذه الكلمات. فإنك تعمل عقلك في كل الأحوال. وإذا تصورنا جدلا أنك مسبقا قد تعلمت مفردات بمعنى معين، ثم أخبرت بجملة فيها هذه الكلمات، فإن تفسيرك لها، وفهمك لها، سيكون بناء على ما سبق أن علمت من المفردات التي تعلمتها. لذلك فإن الإنسان عليه أن ينقي مفرداته الأساسية، ومعلوماته الابتدائية، حتى يفهم ما يجيء بعد ذلك بصورة صحيحة سليمة. والصحيح والسليم هو أمر نسبي يتناسب مع المصدر الذي يتلقى منه الإنسان، ومع المعاني التي تستقر في وجدان الإنسان. لأن باستقرارها في وجدانه يفهم الأمور بناء على ما استقر عليه. فعلى الإنسان أن يكون باحثا غير رافض لمعنى بالنسبة له جديد، أو غير متفق مع ما استقر عليه. لا يرفضه، لأن وجود هذا المعنى هو البداية التي يستطيع من خلالها أن ينقي ما عنده، وأن يبحث فيما عنده، فإما أن يثبت ما عنده، وإما أن يغير ما لديه. وهذا هو القانون الدائم الذي أخبرنا به(لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). فالتغيير يبدأ من الإنسان، والتصحيح يبدأ من الإنسان، والدعاء يبدأ من الإنسان، والطلب يبدأ من الإنسان، والحيرة تبدأ من الإنسان. فإذا شعر الإنسان بحيرته وشعر بأنه ضالا يريد هداية، وأنه جاهلا يريد علما، وأنه متشككا يريد إيمانا، فعليه أن يلجأ الى الله، وأن يدعو الله، وأن يسأل الله، فالله بإحاطته، والله بوصلته والله بقيوميته، معنى يشعر به الإنسان في داخله، لأنه المعنى الذي يلجأ إليه، لأنه الأعلى الذي يطلب منه، لأن هذا هو حال الإنسان وفطرته. حتى الذين يقولون أنهم لا يؤمنون بالله، فهم يدركون أنهم ما عرفوا كل شيء، أو إذا عكسوا البصر الى داخلهم وجدوا أنهم يجهلون الكثير، وأنهم يريدون أن يتعلموا الكثير، وأنهم في حيرة من أمرهم، وفي حيرة من سلوكهم، وفي حيرة من تعليل أمور حياتهم، وهم حين يتجهون، ويطلبون، ويتساءلون، ويبحثون، هم في واقع الأمر يتجهون الى الغيب، وإن كانوا لا يعرفونه، وإن كانوا لا يؤمنون به، وإن كانوا لا يصدقون. حين يقولون أنهم للعلم يتجهون، وفيه يثقون فالعلم لا يتجلى للإنسان إلا بجده وإلا باجتهاده، وإلا بتوفيق الله قبل ذلك. فالاتجاه الى الغيب هو اتجاه فطري في الإنسان، حتى وإن لم ينطق بذلك. أما الذين يؤمنون بالغيب حقا، فإنهم يتجهون وهم يعرفون، وهم بالغيب يؤمنون، وفيه يعتقدون، وأنه يسمع ويبصر بما يعملون، فتكون وصلتهم أوثق، واتصالهم أعمق، وطلبهم أصدق، أنفسهم لمعاني الحق يعدون، عن الصغائر يترفعون، وللظلمات يتركون، ولأنوار الحق فيهم يكبرون، أنفسهم يجاهدون، ولها لا يستسلمون، ربهم دائما يدعون، وعليه يتوكلون، معه يتعاملون، وعنده يحتسبون، وعلى ذكره يجتمعون، ولوجهه يقصدون، يبحثون ويعملون، وضمائرهم يراعون، وقلوبهم يحيون، وعقولهم ينيرون، يجاهدون يجتهدون في كل أمر من أمور حياتهم، وفي كل حركة من حركاتهم. إن الإنسان ليبدأ طريق الحق حقا، عليه أن يبدأ كما بدأ عباد الله الصالحون، وكما بدأ أنبياء الله ورسله، حين اتجهوا الى ربهم بقلوب خاشعة، آمنوا بأن هناك من له يتجهون. فها هو إبراهيم عليه السلام وهو يتجه الى ربه ويسأله ويدعوه (إن لم يهدني ربي لأكونن من الضالين)، لأنه نظر حوله، وآمن بفطرته أن هناك معنى وراء هذا الكون، واتجه إليه وسأله فهداه ربه. ولنا أيضا في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أسوة وقدوة، وهو قبل البعثة لا يقبل ما يرى عليه قومه، فاتجه الى الغيب وأخذ يجاهد نفسه، ويسأل ربه، الذي آمن به قبل أن يكون رسولا، وقبل أن يتلقى وحيا. آمن بفطرته، آمن بصبغة الله التي صبغ الله الإنسان عليها. إن الإيمان يبدأ من الإنسان، يبدأ من فطرته، يبدأ من نفسه ومن قلبه ومن عقله، فلا يرى أي شيء فيه صدقا أو حقا إلا يوم يشعر بذلك في قلبه، ويؤمن بذلك بعقله، فيتجه الى ربه وهو رافض لما يراه، يسأله علما، ويسأله حكمة، ويسأله توفيقا ويسأله فضلا ويسأله نعمة ويسأله رحمة. إن القضية ليست كلمات يرددها كل إنسان، ويقول أنا مسلم أو مؤمن، إنما الإسلام أو الإيمان هو سلوك، يبدأ من الإنسان، فيتجه الى ربه، ويسأل ربه. إنها تجربة يجب أن يمر بها كل إنسان مسلم مؤمن، أن يقوم في حيرة، فيتجه الى ربه بالدعاء وبالطلب والرجاء. إن هذا لا يتعارض مع ما بين أيدينا، وما تعلمناه من آيات، وما سمعناه من أحاديث، وما وجدناه من أثر، فلا زال الناس يختلفون، ولا زالوا يتحاورون، ولا زال هناك الكثير الذي لا يقبله عقل سليم، أو فكر مستقيم، بظن إيمان، أو بظن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتفون. يوم نرجع كل أمر الى السلف، ونرى في تفسيرهم الدين، والدين في مصدره يجب أن ينهل منه كل إنسان بقدره، لا يقف عند تفسير إنسان آخر، إنما يستعين به ليتعلم المعاني والكلمات والأدوات، ثم ما يستقر في قلبه بعد ذلك هو ما يؤمن به حقا. فلا زال الناس في حاجة الى أن يتجهوا الى ربهم، وأن يسألوه نورا، وأن يسألوه هداية، وأن يسألوه توفيقا، ومهما مرت الأيام والعصور، ومهما تكلم الناس واجتهدوا، وأبرزوا معانيهم ومفاهيمهم، فسيظل الإنسان دائما متجها الى الله، طالبا الله، حتى يعرف حقا، وحتى يعلم حقا، وحتى يهتدي حقا. ربنا إن لم تهدنا وتأخذ بأيدينا لنكونن من الضالين…”
تعليق:
حديث يعالج موضوع أساسي وأهوالا يقبل الإنسان إلا ما يعقله فإذا إحتار في قضية ما، اتجه إلى الغيب بالدعاء، وأعمل كل أدواته حتى يصبح قادرا على التعامل مع هذه القضية. أسهب الحديث نسبيا في هذا المنهج ولكني لم أحاول أن أختصره كما أفعل في أحيان أخرى لمحورية هذا المنهج في حياتنا.
مفاهيم دالة :
١٢٣ - كل أمر في ديننا وكل عبادة وكل منسك لها جانب روحي كما أن لها جانب مادي، وهذا ما أشار له القوم بالحقيقة والشريعة
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/١٠/٢٠
”… إن ديننا يدعونا دائما لما هو أحسن (لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (أدعوا الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة). دين الأفضل يدعو للخير في كماله، وللحق في جماله، لا يقف عند شكل أو صورة، لأنه متجدد من داخله في البحث عن الأفضل. دين الفطرة ما ترك شيئا في حياتنا إلا وحدثنا عنه، في مأكلنا ومشربنا، وعملنا وعلاقاتنا، وكان التوجيه في كل ذلك عن معاني حقية، يجب أن نراعيها في أعمالنا، ومعايير يجب أن نتبعها في سلوكنا. كل أمر أمرنا به له جانب روحي وحقي، كما أن له جانب مادي وذاتي. فالأمر إن لم يؤخذ بشقيه فقد معناه. إذا أخذ من جانب مادي فقط أصبح لا قيمة له، وإذا اخذ من جانب روحي فقط، أصبح لا وجود له في هذه الدنيا، وفقد استمراريته في صورته التي تسربل بها ليكون موجودا دائما على هذه الأرض. وإذا أخذ الإنسان بالشقين، سلك وملك، عرف وصدق، دعا وتحقق. وإذا رفض الإنسان الشقين أصبح وجودا ماديا غير مربوط بمعاني الحياة بلا نهائيتها. وهذا ما نراه اليوم على أرضنا، فهناك من تمسكوا بالشقين، وهؤلاء هم عباد الله الصالحون. وهناك من تمسكوا بالشق المادي، وهؤلاء هم المتجمدون الذين لم يأخذوا من الدين إلا قشرته، وهناك من أدركوا المعاني حقا بشقها الروحي، فانعزلوا عن الدنيا وما فيها، حققوا لوجودهم المعاني في روحانيتها وحقيقتها، ولكنهم لم يتواصلوا، ولم يوصلوا هذه المعاني لمن دونهم. وهناك من رفضوا الشقين وهؤلاء هم الذين رفضوا كل صلة بالغيب، ورأوا في الدنيا ربهم، ولم يعرفوا غير ذلك. إنا ندعو ونتواصى بيننا دائما بأن ندرك ما أمرنا به في حقيقته وواقعتيه، حتى نكون عبادا لله صالحين…”
تعليق:
ما أردنا أن نقوله في هذا لحديث أن كل أمر في ديننا وكل عبادة وكل منسك لها جانب روحي كما أن لها جانب مادي، وهذا ما أشار له القوم بالحقيقة والشريعة. عبد الله الصالح يعرف الأمر حقيقة وشريعة. الذي يأخذ الجانب المادي ليس له إلا الجانب المادي، أما الذي يأخذ الجانب الروحي، فله الجانب الروحي ولكن يفقد تواصله على هذه الأرض. والذي يرفض الأمرين فهو الجاحد الرافض لمعنى الحياة في امتدادها.
مفاهيم دالة :
١٢٤ - قضيتنا هي أن نعد أنفسنا لنكون عبادا لله فنكون أهلا لرحمته، وأهلا لنعمته
تاريخ الحديث: ١٩٩٥/١٢/١٥
”… لنقرأ رسائل الله لنا في رحلة الإسراء والمعراج، ونحن نرى في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه القدوة والأسوة، والمثل الأعلى الذي نطلبه ونرجوه، معنى العبد لله، الذي عرف كيف يكسب طريق الحياة، الذي أصبح أهلا لرحمة الله، ولعطاء الله، ولكرم الله، ولفضل الله (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى). قضية الإسراء ليست مجرد حادثة في القديم، وإنما هي حادثة لها أثرها ولها دلالتها. إنها رسالة للإنسان اليوم وكل يوم. إنك يوم تكون عبدا لله، يفعل الله بك الكثير. إنك يوم تكون عبدا لله يأخذ الله بيدك. إنك يوم تكون عبدا لله يسري الله بك. ليس بالضرورة أن يكون ذلك كما حدث في قديم. فهذا أمر جليل له دلالته الباقية. وإنما لنأخذ منه دلالته المعنوية، ودلالته الروحية. التواجد في المسجد الحرام يشير إلى مرحلة التكوين، مرحلة إعداد النفس وإصلاحها بارتباطها بالقبلة. الالتصاق بمصدر الحق يعطيك قوة، ويعطيك طاقة، حتى تكون أهلا للحق، فتكون في معنى العبودية لله. إن المسجد الحرام وقيامك فيه، هو قيام مجاهد، يريد أن يكون عبدا لله. إنه مرحلة جهاد ومجاهدة، إنه مرحلة سعي وكد ومحاربة للنفس. فإن حقق الإنسان ما أراد الله به من قيامه فيه، أصبح أهلا لأن يسري به الى المسجد الأقصى. ليصل الى معنى هو أقصى ما يصل إليه عبد الله على الأرض، وستظل مع ذلك متجها الى القبلة، الى بيت الله الموضوع على الأرض، الى المسجد الحرام. إن ذلك لا يكون إلا بعطاء الله، وإلا بإرادة الله، وإلا بتوفيق الله، وإلا بعون الله، وإلا باصطفاء الله. إنه ليس عملا إراديا، وإنما هو عمل فيه رحمة الله، وفيه توفيق الله. إن على الإنسان أن يعد نفسه ليأخذ الله بيده ويجعله في أقصى وجود له على الأرض. إن هذا يتفق مع ما تعلمناه في معنى رحمة الله (لا يدخل الجنة أحدكم بعمله حتى أنت يا رسول الله حتى أنا ما لم يتغمدني الله برحمته). قضيتنا هي أن نعد أنفسنا لرحمة الله ولتلقي نفحات الله ولتلقي فيوضات الله. قضيتنا أن نكون عبادا لله، قضيتنا أن نجاهد لنكون أهلا لرحمته، وأهلا لنعمته، وهذا ما نرجوه ونطلبه وندعوه…”
تعليق:
ما أردنا أن نقوله في هذا الحديث إن قضيتنا هي أن نعد وجودنا لله، فإذا أعددنا وجودنا لله، كنا أهلا لرحمته ولنفحاته، ولفعله، ولأن يأخذ بأيدينا وبنواصينا ليخرجنا من الظلمات الى النور، ومن حال الى حال، ومن قيام الى قيام.
مفاهيم دالة :